أيام في الربوع العربية (12)

أيام في الربوع العربية (11)
10 ديسمبر, 2024

أيام في الربوع العربية (12)

الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي

لقد كان مقررًا في برنامج وفد الرابطة أن يزور الناحية الشمالية من الأردن ويلقى فضيلة أستاذنا الندوي في المدينة المركزية للمنطقة الشمالية وهي مدينة أربد محاضرة فيكون بذلك للقسم الشمالي الأردني أيضًا سهم في برنامج الوفد، وقد تقرر ذلك ليوم الجمعة 17/8/1973م، فخرجنا لهذه الرحلة صباحًا، ورافقنا فيها فضيلة الأستاذ محمد شقرة مدير المعهد الشرعي في عمان وكانت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية هي التي اختارته لمرافقة الوفد، وهو رجل عالم مثقف بالثقافة الدينية الطيبة، يقوم بنشاط إسلامي مفيد في حقل الكتابة والتعليم، كان طريقنا يمر من خلال المخيمات العديدة لأبناء فلسطين اللاجئين كانت أولاها في “البقعة” ولما وصلنا إليها أراد أستاذنا رئيس الوفد أن يمر عليهم الناس فيتخذوهم أداة تفرج ونزهة لأنهم أمة شريفة، لهم كرامة مثل كرامة غيرهم، ولا فرق بينهم وبين غيرهم إلا أنهم استهدفوا لاعتداء إسرائيل وظلمها، ولا عجب في غيرتهم هذه لأن حالهم في المخيمات إنما يبعث على الحسرة والرثاء، فقد صيرتهم الظروف السياسية القاسية كأمة يتيمة لا ولي لها، فبناءًا على ذلك يعتني بأمرهم المجلس العالمي للأمم المتحدة الذي لا نعرف عنه إلا أنه أداة لتحقيق مآرب الدول القوية وحدها في تحقيق أهدافها، ولقد رأينا بكل وضوح كيف أن الإرساليات التبشيرية تتبنى تكفل المئون والتعلم لمخيمات هؤلاء اللاجئين تحت راية الأمم المتحدة، خرجنا من المخيمات والأسى يملأ قلوبنا واستأنفنا السير إلى الشمال وكان الطريق يمر على الهضبات العالية والمنخفضة وعلى الأودية المتخللة بينها وهو يشير إلى تضاريس هذه الناحية من البلاد الجميلة، حتى وصلنا إلى بلدة “جرش” وهي بلدة ذات آثار رومانية، ولا تزال فيها من هذه الآثار بقايا الأعمدة المدورة العالية المبنية على الطراز الروماني القديم، وعلى جانبي طريق حجري متوجه إلى ساحة مدورة مبنية بنفس الطراز ومنازل حجرية قديمة، وكلها تشير إلى طبيعة أصحابها القدماء في طريقة حياتهم وشغفهم بالنشاط الرياضي والألعاب، وهو يدل أيضًا على المدنية والحضارة في العصر الروماني القديم بالنسبة إلى إمكانيات ذلك العهد، توقفنا دقائق في بلدة “جرش” نتفرج على هذه الآثار ونتذكر أن الحياة الدنيا مهما تقدمت ورقيت ومهما ازدهرت وابتكرت من الوسائل الراقية لابد لها أخيرًا من الفناء والزوال، ثم لا يبقى منها حتى الآثار الكاملة، وقد يختفي أسماء أصحابها أيضًا عن سجلات التاريخ.

خرجنا من “جرش” ثم مررنا على مخيمات اللاجئين الأخرى وهي في “سوف” ثم على الثالثة منها وهي في “الحصن”، وذلك قبل أن نصل إلى مدينة أربد، وتنتشر مخيمات اللاجئين في أراضي الأردن ولبنان على نفس الطبيعة والشكل مما أشرنا إليه في سطورنا الماضية.

لقد كان الغرض الأكبر من هذه الرحلة إلى الشمال هي زيارة أربد فإن لهذه المدينة شأنًا كبيرًا في البلاد الأردنية ويسكنها عدد من الشخصيات الهامة، وهي مركز الناحية الشمالية من الأردن وتتصل بها حدود إسرائيل في مرتفعات الجولان من جانب بحيرة طبرية، وكان يمكن زيارة هذه الحدود من الناحية الأردنية، وقد كنا راغبين في زيارتها أيضًا، ولكن برنامج الوفد في إربد كان يقتضي أن لا نغيب عن المدينة طويلاً لأن لا تفوتنا صلاة الجمعة فسارت قافلة الوفد متوجهة إلى بلدة “أم قيس” وهي تقع على طرف مرتفعات أردنية مواجهة لمرتفعات الجولان بمقربة من بلدة طبرية وبحيرتها ولا يفصل بين هضبتي الجولان وأم قيس إلا نهر اليرموك متلويًا بين الهضبتين وتقع على

 

ضفتي النهر في عمق الوادي بلدة الحمة، المزدوحة، يقع قسمها الشمالي في طرف من الأراضي السورية التي اغتصبتها إسرائيل وأما قسمها الجنوبي فإنما يقع على حدود الأردن، وهي بلدة ذات مياه معدنية وصحية يزورها للاستشفاء عدد من الناس، وبين القسمين مسافة مائة متر تقريبًا أما القسم المحتل منها فهو ذو مساكن ومزارع أكثر وفيه مسجد جامع جميل ويبدو كل ذلك طاهرًا جيليًا أمام عين الناظر من الطريق الواقع على الضفة الأردنية وهو خال اليوم من أي مظهر من مظاهر السكنى لأن السكان هجروه بعد الاعتداء الإسرائيلي واغتصابه له، وهذا القسم معمور بالمنازل ولكنه لا ساكن فيه.

لقد رأينا من ذلك منظرًا يبعث على الأسى والأسف على حالة المسلمين العرب ويبعث على الغضب والاحتقار لثوري العرب الذين أضاعوا الجولان وما يتصل بالجولان، هذه المرتفعات الشاهقة التي لم يكن للعدو ممكنا أن يتغلب عليها وهو في الأسفل منها والعرب فوق المرتفعات، لم يكن العدو يستطيع ذلك إلا إذا وقعت له معجزة، أو تقع من العرب خيانة أو مهزلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ويقع في نفس المنطقة تلك الساحة التي حارب فيها أسلاف المسلمين تحت قيادة سيدنا خالد بن الوليد قوات الروم، وهي الحرب التاريخية العظيمة التي بيضت وجوه العرب المسلمين، ولا تزال غرة في جبين حروب المسلمين مع أعدائهم، فقد يقع هذا المكان على ضفة نهر اليوموك بجنب بلدة الحمة تحت ظلال مرتفعات الجولان فشتان بين سلف وخلف، وشتان بين ما يأتي بسيما الشرف والخلود وبين ما يأتي بوصمة عار وذل.

رجعنا من زيارة الحمة ونهر اليرموك وقلوبنا ملأى بخليط من الخواطر والذكريات منها ما تنكس رؤوسنا وتقطع قلوبنا ومنها ما تبعثنا على الهمة والأمل ولا ندري أيهما كان غالبًا، وأيهما كان مغلوبًا وصلنا إلى مدينة إربد في الوقت الذي كان المؤذن يؤذن لصلاة الجمعة فأدركنا الصلاة في أحد جوامع المدينة، ثم تغدينا في بيت صديق من أصدقاء الوفد واسترحنا قليلاً، وبعد صلاة العصر مباشرة توجهنا إلى قاعة إربد الكبرى وحاضر فيها أستاذنا فضيلة السيد أبو الحسن علي الندوي رئيس الوفد بعنوان “نظرات إلى الإسلام” وكانت محاضرة قوية مؤثرة لما تصمنت عليه من آراء توجيهية، ودعوية صريحة وقوية مع نقد شديد على الأخلاق التي انطبعت بها أخيرًا حياتنا معاشر المسلمين والعرب، وهي أصل دائنا وأهم سبب من أسباب نكبتنا وبعد انتهاء الحفلة زار الوفد بيت الكاتب الإسلامي والمجاهد البطل المرحوم عبد الله التل، الذي استأثرت به رحمة الله قبل ثلاثة أيام. (يتبع)

×