صلاح الكون بصلاح القلب

إنما المرأ بأصغريه
10 ديسمبر, 2024

صلاح الكون بصلاح القلب

محمد خالد الباندوي الندوي

أخي العزيز!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لقد سبق أن تحدثنا – أيها الأخ – عن أهمية اللسان وقصصنا عليك قصة رائعة تضمنت لك عبرا وأرشدت لسداد الكلام سبلا، من اتخذها دليلا نجا من الزلل وسلم من الخطر ومن اعتبر بما جاء فيها من الحكم فاز بكريم من المغنم، إذ اللسان كما أسلفنا جماع الأواصر الودية ومناط الصلات الأخوية فهو كالخيط من لآلي العقد إذ انقطع تتبعثر اللآلي ويفقد العقد قيمته، كذلك الإنسان الذي لا يعرف أهمية اللسان أو يتغافل عن مدى تأثيره أو يسيئ استعماله فإنه بعمله هذا يجر على نفسه الخسران ويشكل خطرا كبيرا على مكانته وسط الناس، فربما يكون بغيضا ينفض من حوله الناس ويتشاءمون من ذكره، ونحن فيما يلي نتحدث معك عن المحور الثاني للموضوع “إنما المرأ بأصغريه” وهو القلب ودوره في الحياة والمجتمع والكون، قال الشاعر العربي:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ولم يبق إلا صورة اللحم والدم

فإن المرأ– أيها الأخ–رهين قلبه، وقيمته في المجتمع منوط بقلبه وعواطفه، يعلو إذا كان ما في قلبه عاليا، ويسقط إذا كان ساقطا، يصلح إذا كان صالحا ويفسد إذا كان فاسدا، بقلبه الصادق الواعي يصعد إلى المنازل الرفيعة، وبهمته المخلصة ينال الدرجات في معركة الحياة، وبعواطفه الودية يحظى بالمحبة الناصحة، وإن القلب هو المحور الأساسي الذي تدور عليه رحى الحياة البشرية بل رحى العبادات والطاعات، ولولاه لتكدّر صفاء العيش وذهب بهاؤه، وضاقت الحياة وما طابت بها النعم، ولولاه لما كان للعبادة معنى وللطاعة أثر، ولما كانت مظاهر الفداء والتضحية والإيثار، ولما شاهد العالم أروع أمثلة للشجاعة والحرية والإقدام والبطولة، ولولاه لما كان الشعراء الذين تغنوا بأمجاد المجاهدين الأبطال ومآثر الكرام من الرجال الذين أراقوا دمائهم في تحقيق مبدأ الحرية والعدل والمساواة بين البشرية. وقد أحسن الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه حين جعل القلب هو المحور الوحيد الذي تبني عليه دعائم الحياة، لأنه هو القائد لجوراح الإنسان، فكأنه الملك وهي جنوده قال:

“ألا إن في القلب مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”.

قال ابن رجب: “القلب ملك الجوارح وسلطانها، والجوارح جنوده ورعيته المطيعة له المنقادة لأمره. فإذا صلح الملك صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المناقدة لأوامره، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره ونواهيه”.

وذلك لأن القلب بمثابة الأرض، تزرع فيها الحبوب فتنبت الأشجار وتؤتي الثمار، وأما القلب فهو لا يربي المضغة اللحمية، بل يربي الفكر والتصور، ويغذي الشعور والوجدان، فلو غرست فيها –يا أخي–شجرة الإيمان، وسقيتها بعواطف الإخلاص والحنان، لامتدت فروعها وبسقت، وأينعت ثمارها وتكاثرت. لذا شبه الحكيم الترمذي الإيمان بالشجرة التي أنبتها في قلوب أصفيائه.

تصور – يا أخي – لو تجرد الإنسان عن معاني الإنسانية وابتعد عن العواطف التي يختص بها دون غيره، وعن المشاعر التي يمتاز بها عن جيمع الخلق، لصار حيوانا شرسا يصول ويجول على أبناء جنسه، ويأتي من المنكرات بما لا يتصوره العقل، ويرتكب من الجرائم ما لا يخطر على القلب، وانقلب العالم جحيما لا يطاق، وأصبح خرابا لا تحيى فيه مظاهر الحب والهيام، والصدق والوئام. لذا أكد الإسلام على حياة القلب واعتبره دعامة رئيسية لسعادة الكون وأولاه اهتمامه البالغ، فكن مهتما بشأن القلب أكثر من غيره، وبالغ في رعايته، لأنه لا شيئ أنفع لك من إصلاح خطرات القلوب، ولا طاعة أفضل من رعاية السرائر.

نسأل الله سبحانه أن يصلح ظاهرنا وباطننا، ويجعل سرنا خيرا من علانيتنا.

×