حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (6)

حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (5)
7 أغسطس, 2024

حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (6)

أ.د. وليد إبراهيم القصاب

 

  • ومن ذلك ما يتعلّق بأسلوب ” الالتفات” والعدول بين الضمائر، ومن أغراضه تنويع أسلوب الخطاب للمتلقي لطرد السأم عنه.

يقول حازم القرطاجني في ذلك: “وهم يسأمون الاستمرار على ضمير متكلّم، أو ضمير مخاطب، وينتقلون من الخطاب إلى الغيبة. وكذلك أيضا يتلاعب المتكلّم بضميره ؛ فتارة يجعله ياء على جهة الإخبار عن نفسه. وتارة يجعله كافًا أو تاءً، فيجعل نفسه مخاطبا. وتارة يجعله هاءً، فيقيم نفسه مقام الغائب؛ فلذلك كان الكلام المتوالي فيه ضمير متكلّم أو مخاطب لا يُستطاب، وإنما يحسُن الانتقالُ من بعضها إلى بعض..”(1).

– ومن مراعاة الحالة النفسية للمتلقي، وتقدير مقامات الكلام وظروفه، أن يحترز المتكلّم في مقام كالمدح، أو التهنئة بمناسبة سعيدة، أو ما شابه، من إيراد ألفاظ قد تفسد على المتلقي هذه الحالة النفسية التي هو فيها. وعلى الشاعر – من أجل تحقيق هذه المراعاة- كما يقول ابن طباطبا- ” أن يحترز – في أشعاره، ومفتتح أقواله- مما يتطيّر به، أو يُستجفى من الكلام والمخاطبات، كذكر البكاء، ووصف إقفار الديار، وتشتت الأُلاف، ونعي الشباب، وذمّ الزمان. ولا سيما في القصائد التي تضمّن المدائح والتهاني. ويستعمل هذه المعاني في المراثي، ووصف الخطوب الحادثة؛ فإنّ الكلام إذا كان مؤسسًا على هذا المثال تطيّر منه سامعُه. وإن كان يعلم أنّ الشاعر إنما يخاطب نفسه دون الممدوح، فيتجنب مثل ابتداء قول الأعشى:

ما بكاء الكبير بالأطلال وسؤالي، وهل ترد سؤالي؟

دمنة قفرة تعاورها الصي فُ بريحين من صبا وشمال

ومثل قول ذي الرمّة:

ما بال عينك منها الماء ينسكبُ كأنه من كلى مفرية سربُ؟

وقد أنكر الفضل بن يحيى البرمكيّ على أبي نواس قوله:

أربع البلى إن الخشوع لباد عليك وإني لم أخنك ودادي

ونطيّر منه، فلما انتهى إلى قوله:

سلامٌ على الدنيا إذا ما فقدتمُ بني برمك من رائحين وغاد

استحكم تطيّره، فيقال: إنه لم ينقض الأسبوع حتى نزلت به النازلة..”(2).

وذكر ابن طباطبا أمثلة أخرى على عدم مراعاة المتكلم حالة المخاطب النفسية ثم قال: “فليجتنب الشاعر هذا وما شاكله مما سبيله كسبيله. وإذا مر له معنى يُستبشع اللفظ به لطُف في الكناية عنه، وأجَلّ المخاطب عن استقباله بما يتكرهه منه، وعدل اللفظ عن كاف المخاطبة إلى ياء الإضافة إلى نفسه إن لم ينكسر الشعر، أو احتال في ذلك بما يحترز به مما ذممناه، ويوقف به على أدب نفسه، ولطف فهمه، كقول القائل:

ولا تحسبنّ الحزن يبقى فإنه شهابُ حريق واقدٌ ثم خامدُ

سآلف فقدان الذي قد فقدتُه كإلفك وجدان الذي أنت واجدُ

وإنما أراد الشاعر: ستألف فقدان الذي قد فقدته كإلفك وجدان الذي قد وجدته؛ أي: تتعزى عن مصيبتك بالسلو. فانظر كيف لطف في إضافة ذكر المفقود الذي يُتطيّر منه إلى نفسه، وما يُتفاءل إليه من الوجدان إلى المخاطب، فجعل الموجود المألوف للمعزّى، والمفقود لنفسه..”(3).

  1. المستوى الثقافي:

راعت البلاغة العربية في تشكيل الأسلوب مستوى المخاطب الثقافي والفكريّ، وكان ذلك وجها آخر من وجوه حسن التواصل معه، وإيصال الرسالة إليه معبّرة مؤثرة.

نجد في البلاغة العربية فكانت دعوة لحوحا أن يكون الخطاب بحسب شخصية المستهدف به؛ فلا يكون أسلوب موجّه إلى العالم كمثل أسلوب موجه إلى جاهل أو قليل الثقافة، ولا يخاطب بأسلوب أهل اختصاص قوم لا دخل لهم بهذا الاختصاص؛ ذلك أن الأساليب واللغة التي تستعمل فيها هي نتاج حالات اجتماعية كما سبق أن أشرنا.

وقد يكون الحطيئة الجاهليّ القائل لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه:

تحنّنْ عليّ هداك المليكُ فإنّ لكلّ مقام مقالا(4).

أول من ألمع إلى فكرة ” ارتباط المقام بالمقال” ولعل بشر بن المعتمر بعد ذلك أوّل من وضح هذه القاعدة، فربطها بالموقف وبالمخاطب، بمراعاة قدره، ومعرفة حاله، وما يحظى عنده من الألفاظ والمعاني، فقال: “ينبغي للمتكلّم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين. وبين أقدار الحالات، فيجعل لكلّ طبقة من ذلك كلاما، ولكلّ حالة من ذلك مقاما. حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات..”(5).

ثمّ اتسع الجاحظ في هذه الفكرة، فدعا المتكلّم أن يراعي أحوال المخاطبين، فلا يكون ما يوجهه إليهم فوق مستواهم، أو ممّا لا رصيد له في مخزونهم الثقافي والفكريّ.

يقول الجاحظ: “أرى أن ألفظ بألفاظ المتكلّمين ما دمت خائضا في صناعة الكلام مع خواصّ أهل الكلام؛ فإنّ ذلك أفهم لهم عني، وأخفّ لمؤنتهم عليّ. ولكلّ صناعة ألفاظ قد حصلت لأهلها بعد امتحان سواها، فلم تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت مشاكلا بينها وبين تلك الصناعة. وقبيح بالمتكلّم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلّمين في خطبة، أو في رسالة، أو في مخاطبة العوام والتجار، أو في مخاطبة أهله وعبده وأمته.. ولكلّ مقام مقال، ولكلّ صناعة شكل..”(6).

المراجع:

(1). – منهاج البلغاء:348

(2). – عيار الشعر: 204- 205

(3). – السابق: 207- 208

(4). – ديوان الحطيئة: ص 335 ” تحقيق نعمان طه، القاهرة، مكتبة الخانجي

(5). – البيان والتبيين: 1/ 139

(6). – الحيوان: 3/ 369

×