حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (6)
17 أغسطس, 2024إسهامات الشاعر الهندي فضل حق الخيرآبادي في مدح رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم
23 سبتمبر, 2024حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (8)
أ.د. وليد إبراهيم القصاب
وأكد ابن قتيبة على هذه المراعاة فدعا الكاتب قائلاً: ((نستحب له أيضاً أن ينزل ألفاظه في كتبه، فيجعلها على قدر الكاتب والمكتوب إليه، وأن لا يعطي خسيس الناس رفيع الكلام، ولا رفيع الناس وضيع الكلام ؛ فإني رأيت الكتاب قد تركوا تفقد هذا من أنفسهم وخلطوا فيه..))(1).
وإنّ مراعاة مقامات الناس في الخطاب، ومعرفة أقدارهم، هو من قبيل الصدق كذلك ؛ إذ هي إنزالٌ للكلام في موضعه، وإعطاؤه لمن يستحقّه
مراعاة الجنس:
يأخذ الأسلوب في اعتباره جنس المتلقي؛ فخطاب الرجل غير خطاب المرأة وهنالك من الألفاظ والعبارات والمعاني ما لا يليق أن يستعمل في حق أحدهما.
ولم يكن النقد الذي وجه إلى عمر ابن أبي ربيعة في غزله إلا من هذا القبيل ؛ فهو يخاطب المرأة التي يتغزل بها بأسلوبٍ لا يليق بحق النساء العفيفات.
قال ابن أبي عتيق عندما أنشده عمر قوله:
بينما ينعتْنَني أبصرنني |
دون قيد الميل يعدو بي الأغرَ |
قالت الكبرى: أتعرفن الفتى؟ |
قالت الوسطى: نعم هذا عمر |
قالت الصغرى وقد تَيمتُها: |
قد عرفناه، وهل يخفى القمر؟ |
((أنت لم تنسب بها، وإنما نسبت بنفسك. كان ينبغي أن تقول: قلت لها، فقالت لي، فوضعت خدي فوطئت عليه..))(2).
كما قال ابن أبي عتيق معلقاً على قول عمر:
قالت لها أختها تعاتبها: |
لنفْسدنّ الطوافَ في عمرِ |
قومي تصدي له ليعرفنا |
ثم اغمزيه يا أخت في خفر |
قالت لها: قد غمزته فأبى |
ثم اسبطرَت تشتد في أثري |
“أهكذا يقال للمرأة؟ إنما توصف بأنها مطلوبةٌ ممتنعة”(3).
إن عمر– في رأي ابن أبي عتيق– لم يخاطب المتلقي– وهو هنا المرأة العربية – بما يليق بخطاب مثلها ؛ فالمتغزل بامرأة يخاطبها بأسلوب فيه تذلل ولين، فيه إشعار بالطلب لها، والسعي وراءها، وأنها مناه وطلبته، ولا يجعل حالها – كما يصورها أسلوب عمر – راغبة ساعية، عاشقة ولهى.
لقد خالف ابن ابي ربيعة الأسلوب المتبع في الغزل. وقد لاحظ النقاد كما – يقول ابن رشيق –: أن عمر “كان يتغزل بنفسه أكثر مما يتغزل بصاحباته. قال: قال بعضهم – وأظنه عبد الكريم –: العادة عند العرب أن الشاعر هو المتغزل المتماوت. وعادة العجم أن يجعلوا المرأة هي الطالب والراغب الخاطب. وهذا دليل كرم النحيزة في العرب، وغيرتها على الحرم..”(4).
من دلالات الاهتمام بالمتلقي:
إنّ خضوع التشكيل الأسلوبيّ للمتلقي يشير إلى جملة من الدلالات منها:
- وظيفة الأدب:
إن هذا الاهتمام الحار الذي يبديه التراث الأدبيّ عند العرب بالمتلقي – سواء على مستوى الإبداع، أم على مستوى التنظير، في كلّ من البلاغة والنقد – ليعكس رؤية تتمثل في الإيمان بارتباط الأدب بالناس والمجتمع، والنظر إليه على أنه نشاط فعّال جادٌّ، يهدف إلى إيصال رسالته إلى المتلقين مؤثرة معبّرة، اكتملت فيها شروط الاتصال، وتحققت لها وسائله، والمتلقي من أبرز عناصر الاتصال.
لقد كان الشعر العربيّ دائما مجنّا لخدمة القبيلة والدفاع عن قضاياها المختلفة، وكان الشاعر لسان قومه ومحاميهم، والذائد عن أحسابهم وأنسابهم، كان جهاز إعلامهم في الحرب والسلم.
يقول أبو حاتم الرازي عن الشعر العربيّ: “وجعلوا رويه في ذكر الأحساب والمآثر، ومدح الملوك والأكابر والنبلاء من الناس، وفي ذكر المثالب، وهجاء أهل الضغائن والأحقاد، وفي ذكر الوقائع والحروب،ونشر كلّ شاعر محاسن أيام قبيلته ومفاخرها، ومساوي أهل الشنآن والبغضاء لهم”(5).
كما كان الأدب عامة، والشعر خاصة، وسيلة للتأديب والتهذيب، ونشر الحكمة وفضائل الأخلاق، وللتثقيف والتعليم وصقل اللسان. كان – في مختصر من القول – ديوان العرب.وكلّ ذلك يفسّر لنا هذا الاحتفاء الكبير به وبقائله، وهذه الدعوة اللحوح إلى حفظه وتدوينه والتمثل به
ولا شكّ أن النظر إلى الأدب على أنه خطاب جماليّ نفعيّ، يتوخى الفرد والجماعة، ويرتبط بقضايا الأمة المختلفة، وليس مجرد خطاب لغوي جماليّ فقط، لا وظيفة له ولا غرض ينهض به إلا الإطراب وإظهار المهارة اللفظية؛ لاشك أنّ مثل هذه النظرة سوف تستحضر المتلقي بقوة،وسوف تكون عنايتها به عناية حارة، على مثل هذا النحو الذي نجده في التراث العربيّ الأدبيّ: إبداعا وتنظيرا.
- الوضوح:
كان من ثمرة الاهتمام بالمتلقي نزوع البلاغة العربية إلى الوضوح، ونفرتها من التعقيد والغموض،واجتناب كلّ ما يمكن أن يعوق اتصال المخاطب بالنصّ، أو يحجبه عن فهمه، أو يؤخر هذا الفهم.
قال أبو هلال العسكريّ: “قال العربيّ: البلاغة التقرّب من المعنى البعيد، والتباعد من حشو الكلام، وقرب المأخذ. ومثله قول الآخر: البلاغة تقريب ما بعُد من الحكمة بأيسر الخطاب.” وقال أبو هلال: “والتقرّب من المعنى البعيد، وهو أن يعمد إلى المعنى اللطيف فيكشفه، وينفي الشواغل عنه، فيفهمه السامع من غير فكر فيه، وتدبّر له..”(6)
وقال بعضهم: “شرّ الشعر ما سئل عن معناه، وأحسنه ما كان لفظه أقرب من معناه إلى قلبك.”(7)
ومن الملاحظ أن جماليات الكلام في البلاغة العربية تدلّ جميعها على الاتصال والإبانة والانكشاف؛ كالفصاحة، والبيان، والإعراب، والبلاغة نفسها، فهي من البلوغ، لأنّ الكلام البليغ يبلغ المتلقي ويؤثر فيه.
إنّ خطابا أدبيا يحتفي بالمخاطب هذا الاحتفاء لا بد أن يكون خطابا واصلا إليه، سواء أكان من العامة أم من الخاصة، وخير الكلام عند العرب ما فهمته العامة، ورضيته الخاصّة، وهو عندئذ خطاب استوفى أمرين هامين لابدّ منهما في أي خطاب أدبيّ ناجح، وهما: الفنية والوصول.
ولذلك كان الوضوح الذي دعت الذي دعت إليه البلاغة العربية – مراعاة للمخاطب، وحرصا على إفهامه – لا يعني السطحية والابتذال، ولا يعني التعبير المباشر الخالي من التخييل والتصوير ؛ فذلك أصلا أبعد ما يكون عن لغة الأدب عامّة، وعن لغة الشعر خاصّة.ولكن الوضوح الذي قررته البلاغة العربية يعني – في مفهومه العامّ– بلوغ النص المتلقي، وعدم انغلاقه دونه، كما هو حاصل في نماذج كثيرة من الشعر الحداثي في هذه الأيام، حتى أصبحنا نسمع من يتبجح بالقول:
لن تفهموني دون معجزة |
لأنّ لغاتكم مفهومةْ |
إنّ الوضوح جريمةْ(8) |
المراجع:
(1) أدب الكاتب: ص120 تحقيق محمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت.
(2) الأغاني: 1 / 119.
(3) العمدة: 2 / 124.
(4) السابق.
(5) – الزينة في أسماء الكلمات الإسلامية: ص39 ” تحقيق: حسين بن فضل الله الهمذاني، مطبعة الرسالة،القاهرة:1957
(6) – الصناعتين: ص53،تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبوالفضل إبراهيم،عيسى البابي الحلبي،القاهرة: 1971
(7) – جواهر الآداب وذخائر الشعراء والكتاب: أبوبكر الشنتريني:ص370 ” تحقيق محمد قزقزان،وزارة الثقافة،دمشق
(8) – محموددرويش