حق القرآن في شهر القرآن

خصائص التشريع الإسلامي في الصوم وفضله
16 أبريل, 2022
منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (5)
18 أبريل, 2022

حق القرآن في شهر القرآن

محمد نعمة الله إدريس الندوي

قد امتاز شهر رمضان على سائر الشهور، وكان سيّدها لما اختصّ به من خصائص عظيمة، ومميّزات فريدة: ففيه فرضت الصيام، وفيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتصفّد الشياطين، وتضاعف أجور الأعمال، وفيه ليلة خير من ألف شهر، وفيه يستجاب الدعاء، وهو شهر الصبر والمواساة، وشهر نزول البركات والرحمات، وشهر مغفرة الذنوب والخطايا، وشهر عتق الرقاب من النيران.

وإلى جانب هذه الخصائص الجليلة التي جعلت شهر رمضان أعظم شهر وأفضله، قد ازداد شرفا وقدرا وعظمة؛ لما خصّه الله سبحانه وتعالى بإنزال القرآن الكريم فيه، ليكون هاديا للناس إلي مافيه سعادتهم وصلاح حالهم، ويبيّن لهم طريق الرشد والصواب بآياته الواضحات، ويفرّق بها بين الهدى والضلال. قال الله تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ” (سورة البقرة:185).

ومن هنا تعمّقت الصلة بين شهر رمضان وكتاب الرحمان، وقد أشار الشيخ أمين أحسن الإصلاحي إلى هذه الصلة المتينة في أسلوب علمي دقيق في معرض شرح هذه الآية الكريمة في تفسيره: “تدبر قرآن” فقال: “إنّ الله سبحانه وتعالى بيّن لنا في هذه الآيات أنّ القرآن نزل هداية للخلق، وهذه الهداية تتضمّن أيضا بيّنات من الهدى والفرقان، والمراد بالبيّنات آيات واضحات وبراهين ساطعات، فالقرآن لايشتمل فقط على أحكام الحلال والحرام، بل هو معين لاينضب للحجج والحكم والبراهين، فيجدر به أن يبقى صالحا لهداية العقل الإنساني إلى أن تقوم الساعة… فحقّ لهذا الشهر الكريم الذي تشرّفت فيه الدنيا بهذه النعمة العظمى، أن يخصّ لذكر الله وشكره والتقرّب إليه؛ اعترافا لعظم قدر هذه النعمة على سبيل الدوام. فافترض الله سبحانه وتعالى فيه عبادة الصوم، طريقا لرفع ذكر الله وأداء الشكر فيه؛ لأنّ عبادة الصوم لها دور ريادي في تربية التقوى، والقرآن ينفع الذين فيهم روح التقوى” (مختصرا من تدبر قرآن باللغة الأردية، ج1 ص450و 451).

ويؤكّد هذه الصلة الوثيقة بين شهر الصيام والقرآن، ما ورد في مسند الإمام أحمد أنّ الكتب السماوية كلّها نزلت في شهر رمضان، فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: “أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان أي في ليلة الخامس والعشرين منه” (سنده صحيح كما قال الساعاتي في الفتح الرباني ج 18، ص 46).

وإذا كان الاهتمام بالقرآن الكريم بتلاوته، وتدبر آياته، وتفهّم معانيه، وتنفيذ أوامره من أهم الواجبات الدينية، فيتأكد وجوبه في شهر رمضان المبارك خاصة؛ لما بينهما من ترابط وتلاحم؛ ولما يفضل شهر رمضان بكونه موسم العبادات، وشهر البر والطاعات، وفصل ربيع القلوب وجلاء النفوس. لذلك كان النبّي صلى الله عليه وسلم يدارس القرآن مع جبريل عليه السلام في ليالي رمضان كل عام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود مايكون في رمضان، كان جبرئيل يلقاه كل ليلة في رمضان، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبرئيل كان أجود بالخير من الريح المرسلة” (متفق عليه).

إنّ شهر القرآن فرصة ثمينة ومناسبة كبرى للمسلمين، أن يشغلوا ليله ونهاره بالتعبد بالقرآن تلاوة أو استماعا إليه في قيام الليل، فإنّ تلاوة القرآن من أجلّ القربات التي يتقرب بها المؤمن إلى ربّه سبحانه وتعالى ويترتّب عليها عنده عظيم الثواب وجزيل العطاء والشفاعة يوم القيامة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ” (سورة فاطر: 29، 30). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم “الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفّعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفّعني فيه، فيشفّعان” (رواه أحمد والطبراني والحاكم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله).

والجدير بالذكر أنّ الاشتغال بالقرآن الكريم بالتلاوة وفهمه والعمل بما جاء فيه، لاينفع المؤمنين في نيل رضا الله وحسن ثواب الآخرة فقط، بل يعينهم في التخلّق بأخلاق القرآن، وبالتالي تكون صيامهم مقبولة، ومحاطة بسياج من الحفظ والرعاية، حتى لايتسرب إليها الخلل والنقصان، كما أراده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “إذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه فليقل: إنّي صائم، إنّي صائم” (متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه).

و قبل أن أنهي كلامي، أحبّ أن أعرض عليكم بعض الصور المضيئة المشرقة عمّا كان عليه السلف الصالح من اهتمامهم بالقرآن في رمضان؛ لنعرف كيف كانوا يتعاملون مع كتاب الله العظيم، ويوفون حقّه في شهره الكريم، لعلّنا نتّعظ، ونعتبر، ونجعله نبراسا لنا في مشوار حياتنا، وخاصة في رمضان شهر القرآن. يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: كان الزهري رحمه الله إذا دخل رمضان يقول: إنّما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام. وكان مالك رحمه الله إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالس العلم، وأقبل على قراءة القرآن من المصحف. وكان قتادة رحمه الله يختم القرآن في كلّ سبع ليال دائما، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأخير منه في كل ليلة. وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان في كل ثلاث ليال، وفي العشر الأواخر منه في كل ليلتين.و كان الأسود رحمه الله يقرأ القرآن كلّه في ليلتين في جميع الشهر(مجالس شهر رمضان لابن عثيمين).

 اللهمّ اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا وغمومنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار. اللهم بلّغنا شهر رمضان، ووفّقنا فيه للاقتداء بالسلف الأخيا؛ لنعمر أوقات شهر القرآن بالقرآن تلاوة وفهما وتدبّرا، واجعله حجّة لنا لا علينا يا رب العالمين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

×