خصائص التشريع الإسلامي في الصوم وفضله

الفضيلة لدى مفكري المسلمين
16 أبريل, 2022
حق القرآن في شهر القرآن
16 أبريل, 2022

خصائص التشريع الإسلامي في الصوم وفضله

العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي

فرض الله صوم رمضان، ولم يفرضه إلا بعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسلمون إلى المدينة، وانقضت أيام العسرة والمحنة، وتهيأت لهم أسباب العيش، حتى لا يقول قائل إن الصوم كان اضطرارياً، ومن وحي البيئة والحالة الاقتصادية، التي كان يعيش فيها المسلمون في مكة، وأنه من شأن الفقراء والمساكين، او المضطهدين المعذبين، وان الأغنيار والموسرين، وأصحاب الأملاك والبساتين في غنى عن الصوم.

ولم يفرضه إلا بعد أن رسخت العقيدة في قلوب المسلمين، وفعلت فعلها،  وألفوا الصلاة وهاموا بها، وتلقوا الأوامر والأحكام الشرعية بقبول واستعداد كأنهم كانوا منها على ميعاد، وقد أحسن العلامة ابن القيم الإشارة إلى ذلك فقال:

” ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتدريج.

وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات [ زاد المعاد، ص: 152].

وأنزل الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(  [ البقرة:183 ــ 185].

ليست هذه الآيات التي تضمنت وجوب الصوم، تشريعاً جافاً مجرداً، كالقوانين والمراسيم العادية، التي لا تعتمد إلا على الرابطة السياسية أو الاجتماعية، التي تقوم بين الفرد والحكومة، إن هذه الآيات تخاطب الإيمان والعقيدة، والعقل والضمير، والقلب والعاطفة في وقت واحد، وتثير كل ذلك وتغذيه، وهكذا تهيىء الجو لقبول هذا التشريع وإساغته بل للترحيب به، واستقباله بنشاط وحماس، إنها آية في الإعجاز، وفي فقه الدعوة، وعلم النفس، والتشريع الحكيم، )تنزيل من حكيم حميد(.

خاطب الله المكلفين بهذا التشريع بقوله: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا( وهكذا هيأ المخاطبين لقبول كل ما يكلفون به ويُطلب منهم مهما كان شاقاً وعسيراً، لأن صفة الإيمان  تقتضي ذلك، وتوجبه، فمن  آمن بالله، كإله ورب، وسيد ومطاع، صاحب الأمر والنهي، وخضع له بقلبه وقالبه، واستسلم له وأحبه من أعماق نفسه، كان جديراً بإجابة كل ما يصدر عنه  من أمر، وكل ما يوجه إليه من طلب: )إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا( [النور:51] )وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ( [الأحزاب: 36] )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ( [ الأنفال: 24]، والشريعة كلها ـ بما فيها من قرائض وأحكام ـ حياة للنفوس.

ثم ذكر الله أنه كتب عليهم الصيام،  ولكنه لم يكتبه عليهم لأول مرة في تاريخ الأديان، وليس هو بدعاً في التشريع، فقد كتبه على من سبقهم من أهل الكتاب، وأهل التشريع والأديان، وهكذا يخفف الله وطأة هذا التشريع على النفوس، ويهوّن خطبه عليها، فالإنسان، إذا عرف أنه لم يكلف بشيء جديد، وإنما هو شيء سبق وتقدّم، وقامت به الطوائف والأمم، هان عليه الأمر، وتشجع عليه.

ثم ذكر أنه ليس امتحاناً فقط، ولا مشقة ليس من ورائها قصد، بل هو رياضة وتربية، وإصلاح وتزكية، ومدرسة خلقية، يتخرج فيها الإنسان فاضلاً كاملاً، زمامه بيده، يملك نفسه وشهواته، ولا تملكه، لقد استطاع الإضراب عن المباحات والطيبات، فهو أقوى على ترك  الممنوعات والمحرمات، ومن يترك الماء الزلال الحلال، والطعام الزكي الهنيء لأمر ربه، كيف يقرب السحت الحرام، والرجس النجس من المطاعم، والمشارب والمعايش؟ لذلك قال: )لَعَلّكُمْ تتَّقونَ(.

ثم قال لا تهولنكم عدة الشهر ولا تثقلن  عليكم، فإنما هي )أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ( تصام تباعاً، وتنقضي سراعاً، وما نسبة هذا الشهر ـ الذي لا يصام إلا نهاره ـ إلى العام الكامل، الذي ينقضي في لذة مباحة، ومتعة وراحة؟

ثم إنه يستثنى من هذا التكليف المريض والمسافر، ومن يعجز عن الصوم، أو يخاف عليه منه.

ثم ذكر فضل الشهر الذي شرع صومه، إنه شهر، نزل فيه القرآن، الذي كان بعثاً جديداً للجيل الإنساني، ومبدأ حياة جديدة للنوع البشري، فخليق بالمسلم أن يستمد من هذا الشهر المبارك، بصيامه وقيامه، حياة جديدة، وإيمانا جديداً، وقوة جديدة.

هذا هو الصوم الإسلامي، أو الشحن الروحاني، والزاخر بالحياة والمنافع والبركات، بعيد عن الإرهاق والإجهاد والمشقات، التي لا تطيقها النفوس )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(  [ البقرة: 185].

خصائص التشريع الإسلامي في الصوم وفضله وأحكامه:

وهكذا جاء التشريع  الإسلامي للصوم أكمل تشريع وأوفاه بالمقصود، وأضمنه بالفائدة، وقد تجلت  فيه حكمة العزيز العليم الحكيم الخبير، الذي خلق الإنسان )أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( [ الملك: 14].

فخص شهراً كاملاً، وهو شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن بصيام أيام متتابعات متواليات، يصام نهارها ويفطر ليلها، وهو  العرف عند العرب في الصوم وهو الميزان في التشريع العالمي الإسلامي، يقول شيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم  الدهلوي:

“ويضبط اليوم بطلوع الفجر إلى غروب الشمس،  لأنه هو حساب العرب ومقدار يومهم، والمشهور عندهم في صوم عاشوراء، والشهر برؤية الهلال إلى رؤية الهلال، لأنه هو شهر العرب، وليس حسابهم على الشهور الشمسية” [حجة الله البالغة ص 2/37].

لماذا خص رمضان بالصوم؟

وجعل الله الصوم في رمضان، فجعل أحدهما مقروناً بالآخر، مرتبطاً به، فذلك قران السعدين، والتقاء السعادتين في حكمة التشريع، وذلك لأن رمضان قد أنزل فيه القرآن، فكان مطلع الصبح الصادق في ليل الإنسانية الفاسق، فحسن أن يقرن هذا الشهر بالصوم، كما يقترن طلوع الصبح الصادق بالصوم كل يوم، وكان أحق شهور الله ـ بما خصه الله من يمن وسعادة وبركة ورحمة، وبما بينه وبين القلوب الإنسانية السليمة من صلة خفية روحية ـ بأن يصام نهاره، ويقام ليله.

وبين الصوم والقرآن صلة متينة عميقة، لذلك كان رسول الله صلى الله عيه وسلم يكثر من القرآن في رمضان، يقول ابن عباس رضي الله عنه: “ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة”.

يقول العارف بالله العالم الرباني الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي في بعض رسائله:

“إن لهذا الشهر مناسبة تامة بالقرآن، وبهذه المناسبة، كان نزوله فيه،  وكان هذا الشهر جامعاً لجميع  الخيرات والبركات، وكل خير وبركة  تصل إلى الناس في طول العام، قطرة من هذا البحر، وإن جمعية هذا الشهر سبب لجمعية العام كله، وتشتت البال فيه سبب للتشتت في بقية الأيام، وفي طول العام، فطوبى لمن مضى عليه هذا الشهر المبارك، ورضي عنه، وويل لمن سخط عليه، فمنع من البركات، وحُرم من الخيرات”.

ويقول في رسالة  اخرى:

“إذا وفق الإنسان للخيرات، والأعمال الصالحة في هذا الشهر، حالفه التوفيق في طول السنة، وإذا مضى هذا  الشهر في توزع بال وتشتت حال، مضى العام كله في تشتت وتشويش”.

×