ما يُعرف وما يُساء فهمه

“صحيفة المدينة “دراسة حديثية وتحقيق للدكتور هارون رشيد الصديقي (2)
11 ديسمبر, 2025
“صحيفة المدينة “دراسة حديثية وتحقيق للدكتور هارون رشيد الصديقي (2)
11 ديسمبر, 2025

ما يُعرف وما يُساء فهمه

عمرو محمد الغزالي (مصر)
كأنك فجأة تطأ أرضًا لم تعرفها من قبل، أرضًا تمتد بين وديان الرافدين وقمم جبال الأندلس، حيث تتقاطع الحضارات وتتماوج الثقافات. قبل قرون، خرج الفلاسفة والمفكرون من المدن الإسلامية، يحملون علومًا لم يعرفها الغرب بعد. علومًا تمتد إلى الروح والعقل، ومعارف تتجاوز الحدود واللغات. لم تكن العلوم مجرد أدوات، كانت نصوصًا تُقرأ وتُحلل، مدارس تُؤسس، وتجارب تُمارس، وكأن الزمن نفسه توقف ليستمع.
في بغداد، جلس العلماء في بيت الحكمة، من الكندي إلى الخوارزمي، يجمعون بين الفلسفة والرياضيات والفلك والطب. الغرب تعرف على هذه العلوم عبر الأندلس وصقلية، من خلال ترجمات قام بها علماء مثل جيرارد الكريموني في طليطلة، الذي ترجم أكثر من 70 كتابًا من العربية إلى اللاتينية، من بينها أعمال ابن سينا وابن الهيثم، ليصبحا جسرًا لنقل المعرفة إلى أوروبا.
ثم جاءت الترجمات التي قام بها علماء مثل روبرت أوف تشيستر في القرن الثاني عشر، الذي ترجم كتاب الخوارزمي عن الجبر، مما أدخل هذا العلم إلى أوروبا. هذه الترجمات فتحت الباب على مصراعيه أمام العقل الأوروبي لمعرفة أساليب جديدة في حل المسائل الرياضية والفلكية، وتجاوز الأساليب اليونانية القديمة.
بعدها، وصلت إلى الأندلس والمغرب البعثات الأوروبية، حيث كانت الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها. رحالة ومفكرون مثل أديلارد أوف باث، وهو عالم إنجليزي في القرن الثاني عشر، سافر إلى صقلية وأنطاكية وتعلم العربية ليدرس العلوم والفلسفة. لقد أدرك أن قوة المعرفة تكمن في فهمها قبل فرضها، وأن الانفتاح على الآخر هو طريق التقدم.
في الهند، ارتقى علماء مثل الخوارزمي وأبو معشر البلخي، الذين أخذوا من العلوم الهندية، خاصة في الرياضيات والفلك، ونقلوها إلى العالم الإسلامي، ثم إلى أوروبا. كانت هذه المعرفة تشكل حلقة وصل بين ثقافات مختلفة، مؤكدة أن العقل والمعرفة جسور تربط الشعوب.
وفي أوروبا، عمل يوهان كيبلر وغاليليو غاليلي على دراسة الفلك والرياضيات، متأثرين بشكل مباشر بأساليب العلماء المسلمين. على سبيل المثال، اعتمد كوبرنيكوس على أساليب رياضية طورها علماء من مرصد مراغة في إيران، مثل نصير الدين الطوسي، في بناء نظريته حول مركزية الشمس. هذه المعارف فتحت طرقًا جديدة للبحث العلمي والفلسفي، وبذرت العقلانية في تربة لم تعرفها من قبل.
لم تقتصر الرحلات على نقل العلوم، شملت أيضًا الفكر والفلسفة. في القرون اللاحقة، أثّر ابن خلدون، بفلسفته الاجتماعية وعلم العمران، على مفكرين غربيين لاحقين. كتابه “المقدمة”، الذي لم يترجم بالكامل إلى اللاتينية إلا في القرن التاسع عشر، أرسى دعائم علم الاجتماع الحديث. فقد أدرك مفكرون مثل أوجست كونت أن ابن خلدون كان رائدًا في تحليل الظواهر الاجتماعية بشكل منهجي، مما أثر في نظرتهم إلى التاريخ والمجتمعات.
وفي القرن التاسع عشر، ظهر مفكرون مسلمون تأثروا بالحداثة الغربية، مثل رفاعة الطهطاوي الذي أرسلته مصر إلى باريس في بعثة تعليمية. عاد الطهطاوي ليقدم في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” صورة عن التقدم الغربي لا كعدو، بل كنموذج يمكن الاستفادة من علمه ومنجزاته، دون التنازل عن الهوية.
تأسست مدارس وجامعات في باريس وأكسفورد وليدن لتعليم اللغات الشرقية والعلوم الفلسفية. هنا ظهر مفكرون مثل سيلفستر دي ساسي في فرنسا، الذي أسس علم الاستشراق الحديث، وعلماء مثل توماس أرنولد، الذي كتب عن الدعوة الإسلامية بأسلوب أكثر موضوعية، مؤكدين أن الحضارات تحمل قيمًا علمية وفكرية مهمة، وأن التقدم لا يقتصر على حضارة واحدة.
وهكذا، استمرت الحضارة في السير بلا حدود، بأقدام الكتب والأفكار، تزرع بذور الوعي والفهم، وتبني جسورًا بين الإنسان والإنسان، بين ما يُعرف وما يُساء فهمه.