ما يصلح الملح إذا الملح فسد
10 ديسمبر, 2024أمراض المجتمع وعلاجها (6)
الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي
- الأثرة:
أما الأثرة والأنانية فهي من أخطر الأمراض الباطنة التي تجعل المصابين بها بدون من يواليه أو يحميه في الدنيا والآخرة، وعندما تصبح مصلحتُه الشخصية همَّه الوحيد، يركز جُلّ جهده على ذاته فحسب، دون مراعاة لمصالح الآخرين أو السعي لنفعهم، فلا يهمُّه إلا نفسه، ويحقق رغباته على حساب غيره، دون أن يكترث أو يلقي لذلك بالاً، وبمضيِّ الوقت يفقد احترام الناس ومحبتهم له في الدنيا، ويخسر في الآخرة، وهو خسران مبين.
ومن خصائص هذا الدين أنه وضع نظامًا جامعًا متكاملًا للحياة الاجتماعية، وأكد على رعاية حقوق الآخرين، كما أكد على الإيثار، وجعله أحد أهمِّ القيم الخلقية النبيلة، فقد وصف الله تعالى المؤمنين بهذه الصفة الممتازة بقوله: ” وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (الحشر : ٩)
وردت في سبب نزول هذه الآية قصة رواها أبو هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ : مَا مَعَنَا إِلَّا الْمَاءُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” مَنْ يَضُمُّ – أَوْ يُضِيفُ – هَذَا؟ ” فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ : أَنَا. فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ : أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ : مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي. فَقَالَ : هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً. فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا، فَأَطْفَأَتْهُ فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : ” ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ – أَوْ عَجِبَ – مِنْ فَعَالِكُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”. (صحيح البخاري : كتاب مناقب الأنصار، باب ويؤثرون على أنفسهم… : ٣٧٩٨)
وفي حديث آخر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لا يُؤْمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ من الخيرِ” (سنن النسائي : ٥٠١٧)
فصفة الإيثار ترفع من شأن الإنسان، وتزيد من ترابُط المجتمع وتآلُفه، فهي صفة عظيمة تعكس أسمى معاني الإنسانية، وتجعل الفرد يؤثر مصالح الآخرين على مصالحه مما يساهم في تعزيز أواصر المحبة وروابط الأخوة في المجتمع.
فإن الأنانية والأثرة تجرد الإنسان من روح الجماعة، وتبعده من جوهر الإنسانية، وتجعله متبلد الإحساس، وتدفعه إلى العزلة والإنزواء، حيث يغرق في حب ذاته ومصالحه الضيقة المحدودة، فالإنسان الأناني يعجز عن الشعور بآلام الآخرين ومعاناتهم، وكأن قلبه قد نُحِتَ من صخرة صماء، فلا يشعر ولا يرقُّ، مما يجعله مصدرًا لتفكُّك النسيج الاجتماعي والفرقة بين الناس.