أيام في الربوع العربية (6)

أيام في الربوع العربية (5)
7 أغسطس, 2024

أيام في الربوع العربية (6)

الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي

فرغنا من الطعام في الساعة الثانية بعد الظهر، وألقى بعده فضيلة الاستاذ صبحي الصالح كلمة ترحيب بالوفد، مثينًا عليه وعلى رئيسه فضيلة الأستاذ الندوي، ثم تلاه فضيلة الأستاذ الندوي بكلمة شكر، واستفاض فيها، وبحث في مسئولية العلماء نحو دينهم وتربية أمتهم، وذكر العلماء بمكانتهم في الزهد والرفع عن محاقر الدنيا، واستحسن الناس كلمته بصورة عامة، ثم رجعنا إلى محلنا.

وبعد صلاة العصر توجهنا إلى المكان الذي أقامت دار السفارة السعودية فيه مأدبة العشاء تكريمًا للوفد، وقد دعت إليها عددًا محترمًا من الشخصيات النابهة، وخاصة كبار رجال الملك الدبلوماسي للبلاد العربية، ورجالات النشاطات الإسلامية في بيروت، وأصحاب مكانة إسلامية ممتازة في هذا البلد، فكانت فرصة أخرى للتعارف والتلاقي، وكانت مسك الختام لبرامج الوفد في بيروت ولبنان.

وكان السفر صباح الغد إلى دمشق عاصمة سوريا، وتقرر بأن يكون هذا السفر بالسيارة التي أعدتها للوفد سفارة المملكة العربية السعودية في لبنان، وذلك عند مطلع الشمس، فقد كنا نريد أن نصلي الجمعة في المسجد الأموي بدمشق.

كان الوفد قد وصل إلى بيروت في مساء الأحد، وهو يغادرها صباح الجمعة، وبذلك كانت له في لبنان أكثر من أربعة أيام، ساح فيها الوفد في كبرى مدن لبنان، وزار الجمعيات والمؤسسات والرجالات الإسلامية، وعرف فيها شيئًا كثيرًا، تيسرت له معرفته في هذه المدة القصيرة، إنه وجد البلد اللبناني بلدًا يشعر المسلمون فيه بالغربة والحرمان في شأن حقوقهم المدنية، وعرف أن المسيحية تنال حقوقًا أكثر من الإسلام؛ بل على حساب الإسلام مع أن المسلمين لا يقلون عنهم عددًا وأن سلطان المسيحية قوى على الدوائر التنفيذية والتوجيهية حتى كاد كل شيء يصطبغ بالصبغة المسيحية، ويخضع للطائفة المسيحية وأبنائها في هذا البلد، وتساعده الدول الغربية الكبرى وهي مسيحية أيضًا.

عرف الوفد أن شعور المسلمين في لبنان بوضعهم الخاص يحفزهم إلى العمل بما يسعهم نحو مناصرة الإسلام، وأمة الإسلام في هذا البلد، ولهم جمعيات كثيرة ودوائر، تعمل في عدد من مجالات الحياة، بعضها مخلصة لأهدافها، وبعضها تبطن أغراضًا شخصية كذلك، وأكثر جمعيات لبنان أهلية تعتمد على تبرعات المسلمين، وبعضها معترف بها من قبل الحكومة مثل مؤسسة دار الفتوى في لبنان، فالحكومة تقوم بتمويل المهم من شؤونها، وتعترف بمكانتها الأولية في لبنان الإسلامي.

ولبنان قطر محايد لا ينحاز إلى أحد في الخلافات السياسية، إنه يؤمن لأهله بالحياة السعيدة أكثر مما يؤمن بالقيم والمبادئ، وهو يعيش في حماية الولايات المتحدة الأمريكية ولذلك لا يرى حاجة كبيرة إلى بناء قوة عسكرية كبيرة، وقد طغت على الحياة في لبنان مقومات الحياة الأوربية الحرة وتضاءلت أمامها مقومات الحياة الشرقية الغربية كل التضاؤل، ولولم يكن أن لبنان يقع في المحيط العربي لما بقيت عنده البقية الباقية من عروبته أيضًا، وهي استخدامه للغة العربية كاللغة الرسمية له، ورضاه بكونه في الأسرة العربية.

وتقع عاصمة بيروت في مكان يلتقى الغرب فيه بالشرق، وتلتقي فيه الغربية بالشرقية ولكن الحياة الغربية فيه تقوم بدور الإعطاء والتوجيه، وتقوم الشرقية بدور الأخذ والتسليم، تشهد بذلك منشورات الفكر والفن في الصحف، ومظاهر التحرُّر والانطلاق ببيروت، وخاصة في فصل الصيف الذي تخلع الحياة الأوربية فيه عن نفسها كثيرًا من الاحتشام الخلقي، وبيروت مدينة ساحلية تقع في الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط على موقع حسن جميل، وتحيط بها من جوانبها الثلاثة البرية جبال خضراء معمورة بالبيوت والمساكن والفنادق والمنتزهات، بعضها عالية، وبعضها منخفضة، وكلها تستخدم كالمصائف الجميلة.

والتقى الوفد أثناء إقامته في بيروت بالأستاذ صالح آذرجان رئيس تحرير مجلة الهلال الإسلامية التركية، وهو فتى مسلم متحمس غيور لإسلامه، يعيش الآن في بيروت لأن الوضع التركي الحالي لا يسمح له بالعيش في تركيا، وهو عضو أيضًا للمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، والتقى الوفد كذلك بالأستاذ محمد عز الخطيب، وهو عالم فلسطيني معروف، صاحب مؤلفات قيمة عديدة، وقد أهدى إلى الوفد بعض مؤلفاته الأخيرة.

ويحسن بنا بمناسبة إكمالنا لزيارة لبنان من ضمن جولتنا الحالية أن نبدى تقديرنا وشكرنا لحسن الوفادة وكرم الضيافة التي لقيناها من سماحة المفتي حسن خالد، ومن مدير دار الفتوى العام سعادة الأستاذ حسين القوتلي، فقد قاما بما وسعهما من ترحيب وضيافة وإكرام لوفد الرابطة الزائر، جزاهما الله خير الجزاء، وكذلك الأستاذ محمد عبد المحسن السمان القائم بأعمال السفارة السعودية في بيروت، ومساعدوه، فقد سهلوا للوفد مهمته، وهيأوا له كل أسباب التيسير، وكان عونًا كبيرًا في كل المهمات، أما طريق بيروت فتمر على فندق شبرد الواقع في المصيف اللبناني بحمدون، فلم يفتقر الوفد إلى مدينة بيروت عند توجهه إلى دمشق؛ بل اختار طريقه إلى دمشق من باب الفندق رأسًا، والتقى بالوفد على حدود سوريا الأستاذ فاروق أحد أعضاء السفارة السعودية في دمشق، وقام بإكمال الإجراءات الرسمية على الحدود، وصحبنا إلى دمشق حتى وصلنا أولاً إلى مقر السفارة السعودية في دمشق، فالتقينا فيه بسعادة السفير المؤقر، وهو سعادة الشيخ المعتق، وقضينا قليلاً من الوقت معه، ثم توجهنا إلى فندق أمية الجديد الذي كانت السفارة المؤقرة قد حجزت فيه الغرف لإقامتنا، وكانت دمشق في هذه الأيام مزدحمة بالزوار لانعقاد المعرض الدولي فيها، ولأسباب أخرى أيضًا، فكانت غرف الفنادق مشغولة بصورة عامة، ووصلنا إلى الفندق فوجدنا في انتظارنا رجلين نيابة عن مفتي الجمهورية السورية سماحة الشيخ أحمد كفتارو، فقد كان الأستاذ الجليل السيد أبو الحسن الندوي قد أبرق إليه ببرنامج وصوله إلى دمشق، فإن له ارتباطات الصداقة والأخوة القديمة مع سماحة المفتي، وعلمنا أن سماحة المفتي نفسه كان موجودًا قبل دقائق، ثم رجع لبعض أشغاله المهمة، ولعدم معرفته بموعد وصولنا بالضبط، فترك لنا نجله ا لكريم وأحد مساعديه يستقبلاننا، وأشارا علينا بأن نصلي الجمعة في الجامع الأموي، وبعد هنيهة من الوقت وصل إلينا سماحة المفتي بنفسه، والتقى بالأستاذ الجليل وببقية أعضاء الوفد بإكرام ومحبة بالغين، وفي أثناء ذلك أراد أحد مندوبي وكالة أنباء الشرق الأوسط ليأخذ خبر الوفد وأهداف جولته، فتحدث إليه سيادة أخينا الأستاذ عبد الله محمد باهبري عن مهمة الوفد وأهداف جولته، ثم توجهنا مع سماحة المفتي إلى الجامع الأموي لصلاة الجمعة، ومررنا من السوق المعروفة بالحميدية، ولقينا في الجامع الأموي قبل الصلاة وبعدها عددًا من المعارف والمحبين، ثم رجعنا إلى الفندق، واجتمعنا بسماحة المفتي في المساء، ثم في صباح السبت أيضًا ولكن اللقائيين لم ينطويا إلا على أحاديث أخوية وموضوعات تربوية ودينية فحسب، ولم يحصل تحطيط لبرامج الوفد في سوريا سوى تحديد لقاءات وزيارات بسيطة، وكان اقتراح سماحة المفتي أن يجتمع الوفد أولاً بمعالي وزير الأوقاف السوري الأستاذ عبد الستار، وسمعنا أنه صاحب عاطفة إسلامية طيبة، ويحب خير الإسلام والمسلمين. (يتبع)

×