أيام في الربوع العربية (2)
6 يونيو, 2024أيام في الربوع العربية (4)
18 يوليو, 2024أيام في الربوع العربية (3)
الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي
وأحاطنا فضيلة الشيخ الجسر برعايته ومحبته، وأبدى سرورًا عظيمًا بهذه الزيارة ولقاء فضيلة أستاذنا السيد أبي الحسن بصورة خاصة، وجرى حديث علمي وإسلامي لطيف، وتطرق الحديث إلى صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفيلم الذي تريد الشركة السينمائية وضعه في بعض البلدان الإسلامية، فكان موضع النقد الشديد من فضيلة المفتي، وفضيلة الأستاذ الندوي، والأستاذ جمال الدين أيضًا، وأكرم المفتي وفادتنا، وسررنا كذلك بلقائه، ورأينا في ذلك عن جهدنا في هذه الرحلة، ثم توجهنا إلى فندق كبير يملكه رجل مسلم كريم، وتناولنا فيه مأدبة فاخرة، واسترحنا قليلاً، ثم صلينا صلاة العصر، وعدنا إلى مدينة طرابلس، وزرنا مدرسة الإيمان الإسلامية، واجتمعنا بمديرها الشيخ رشيد الميقاتي، وهذه المدرسة تعمل في حقل إسلامي مفيد، والشيخ رشيد يحمل عاطفة قوية لنشر روح الثقافة الإسلامية في المحيط الذي تسعه جهوده.
وفي إدارة مدرسة الإيمان التقينا بالشيخ صبغة الله المجددي ابن أخي فضيلة الشيخ محمد صادق المجددي السفير السابق لأفغانستان في مصر والأردن والسعودية، وهو ابن أسرة المشائخ المجددية في أفغانستان، وقد دامت لهذه الأسرة مهابة وعظمة في أفغانستان وتأثير على حكومتها قبل العهد الأخير، وكان يلقب شيخ مشائخها بملاش بازار ولكنها أصبحت منذ عهد قريب معتوبة في نظر الحكومة حتى اضطر عدد من أعضاء هذه الأسرة إلى الهجرة إلى الحجاز، ولقيتهم يعيشون قائمين بالحق، مكافحين في سبيله، يلقون الجفاء والعذاب، وقد عاني الشيخ صبغة الله أيضًا اعتقالاً عدة مرات وخاصة في العهد الذي رأس فيه وزارة أفغانستان سردار داؤد خان رئيس جمهورية أفغانستان الحالي.
وأخبرنا الشيخ صبغة الله أنه كان عائدًا من بلد علماني بعد مشاركته في ندوة علمية إسلامية عقدت فيه، ولما وصل إلى لبنان علم بانقلاب الحكم في أفغانستان فقطع رحلته ليدرس حقيقة الوضع في بلاده أولاً، ثم يستأنف السفر إلى ما هو موافق لضميره ولحاله.
خرجنا من مدرسة الإيمان، ومررنا بشوارع طرابلس بين عماراتها العالية، وأسواقها الأنيقة، واستأنسنا بالمدينة؛ لأنها تحمل نسمات الحياة العربية الإسلامية، وتاريخًا مليئًا بالحوادث التي تتصل بالفتوح والغزوات الإسلامية، وهي الآن تلي بيروت في المستوى المدني، وفي عدد السكان من بين مدن لبنان، وإنها مرفأ طبيعي؛ ولكنها لم تلق بعد عناية المسئولين بالاستفادة من صلاحيتها في هذه الناحية.
توجهنا إلى بيروت عائدين بعد العصر، وصلينا المغرب في بيروت في مسجد علي بالقرب من المحلة التي يسكنها اللاجئون الفلسطينيون بصورة خاصة، وأكثر سكانها هم المسلمون، وبناءًا على ذلك يسيطر على منطقة اللاجئين منها الفدائيون ولا تتدخل في أمرها الحكومة اللبنانية تدخلاً كبيرًا، فمررنا بهذه المحلة، ويقع بناحية منها ملعب بيروت الكبير، فرأينا آثار قذائف وقنابل خرجت من الجيش اللبناني على جدران اللعب والعمارات المجاورة له، وذلك ليقمعوا قوة الفدائيين الذين كانوا متحصنين فيها، وجرت حرب بين الفريقين لعدة أيام، نشرت أخبارها صحف العالم وكان ذلك تنفيذًا لأمر الحكومة بانسحاب القوات الفدائية من مواجهة إسرائيل في أرض لبنان.
ولا يزال يحرس منطقة الفلسطينيين في هذه المحلة جنود الفدائيين، وذلك لأن رجالاً من قيادتهم يسكنون فيه، وهم يحتاجون إلى الحراسة وخاصة من بعد ما وقع من هجوم طائفة الجنود الإسرائيليين بصورة مباغتة، ودخولهم في المنازل وقتلهم لعدد من قادة الفدائيين، فرأينا فتيانًا وشبابًا يحملون الرشاشات والبنادق على المنعطفات ومفترقات الطرق يترقبون المارة.
لقد وجدنا في هذه المحلة، وفي كل مكان كان أغلب سكانه هم اللاجئون، جوًا من الحسرة والحزن، وصدمت ذاكرتنا أحداث سقوط القدس وفلسطين، وزاد حزننا وحسرتنا أن كل ذلك لم يكن إلا بسبب التهاون والخيانة التي ارتكبتها أكثر الحكومات في المنطقة، ولسوء تقدير الفلسطينيين للمؤامرة الغربية لإسكان اليهود في فلسطين، وتعضيد قوتهم فيها، ولقد صدق الله العظيم “وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ” [الشورى: 30].
أما الفدائيون فماذا نقول عنهم، إنما هم أخلاط من العرب، فيهم المخلصون وفيهم التائهون، أثارهم شعورهم بالرزيئة والهزيمة، وجذبتهم النعرات البراقة، والهتافات الساحرة من أعدائهم، فاجتمعوا للمقاومة كيفما كانت هذه المقاومة، ولكن الأشخاص الذين رفعوا هتافات الثأر طالبين بالفدائية، وتزعموا هؤلاء المتحمسين من الشباب، أكثرهم – مع الأسف – من أصحاب الخلفيات المشبوهة والأفكار التي لا إخلاص فيها لقضية فلسطين، ولا لروح فلسطين، إنما عملوا ويعملون بإيحاءات من الخارج، وإشارات خفية من أعداء العروبة والإسلام، إلا من عصمهم الله منهم من هذا الضلال، علمنا ذلك من خلال حقائق كثيرة كما علمنا من الجهات الموثوقة بها، إن الصفاقة كانت قد تبلغ بهؤلاء أحيانًا إلى أنهم كانوا يجهرون بمعاداة الله ودينه ورسوله بصورة سافرة وبالألفاظ والكلمات.
فيا حسرة على الأمة العربية الإسلامية! ويا حيرة على الأوضاع! ويا ضياعًا للقضية الفلسطينية! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
رجعنا إلى محل إقامتنا في فندق شبرد بحمدون، وقضينا الليل لنستألف السفر إلى مدينة صيدا بجنوب لبنان في الصباح. (يتبع)