سرُّ القوة والتأثير

إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
4 أكتوبر, 2022
فساد القلب بالضغائن داء عياء
26 نوفمبر, 2022

سرُّ القوة والتأثير

جعفر مسعود الحسني الندوي

حكى الدكتور راتب النابلسي في أحد دروسه قصة لأحد الخلفاء الأمويين، وهو سليمان بن عبد الملك مع عالم مكة الشهير، وهو عطاء بن أبي رباح، وما جري بينهما من حديث حين دخل عليه مع وزرائه وأمرائه وحاشيته وقادة جيشه.

إن سليمان بن عبد الملك كان قد تولى أمر المسلمين بعد وفاة شقيقه وليد بن عبد الملك، وكان رجلاً صالحًا متدينًا ملتزمًا بما جاء به نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، يحب العلم والعلماء، ويعظم الدين وأهله، وكان له مستشار يستشير منه في كل أمر من أمور الدولة، ويتجنب الوقوع في الخطأ في اتخاذ القرار بالعمل بما يشير عليه مستشاره رجاء بن حيوة، ولولا رجاء بن حيوة لما آل أمر الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز الذي يُعَدُّ من الخلفاء الراشدين لسيره على نهجهم.

يقول التابعي الجليل ابن سيرين وهو يصف سليمان بن عبد الملك أنه افتتح ولايته بإقامة الصلاة وختمها بتولية عمر بن عبد العزيز، لأن الصلاة كانت تؤخر عن وقتها في الفترات التي سبقت فترة حكمه، فأمر بإقامتها في وقتها، وعهد بأمر الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز على الرغم من أنه لم يكن من أبنائه ولا أشقائه،لِمَا رأى فيه من الزهد والورع، والتقى والمؤهلات التي تؤهله لتولي منصب الخلافة الجليل، وذلك لأن مستشاره رجاء بن حيوة أشار عليه بتعيينه وليًا للعهد.

هذا هو سليمان بن عبد الملك دخل مكة المكرمة لأداء مناسك الحج، ولما انتهى من القيام بما يجب عليه في تلك الأيام من أركان الحج سأل أحد حاشيته عن عالم مكة ليزوره قبل أن يعود إلى دمشق، فقال: عطاء بن أبي رباح، فتوجَّه إليه ولقيه، فوجده -كما يقول الدكتور راتب النابلسي- شيخًا حبشيًا أسود البشرة، مفلفل الشعر، أفطس الأنف، إذا جلس بدا كالغراب، كأن رأسه زبيبة، مشلول نصفه، ولا يملك من الدنيا دينارًا ولا درهمًا، فقال سليمان بن عبد الملك: أأنت عطاء بن أبي رباح الذي دوخ ذكرك الدنيا؟، قال: هكذا يقال، قال: بما حصلت على شرف هذا العلم ؟ فأجاب: باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي، فقال سليمان بن عبد الملك حين تلقى منه هذه الإجابة التي تدل على رفعة منزلته وعلو شأنه: لا يفتي في المناسك إلا عطاء.

وحدث بعد اللقاء الأول -كما حكى الدكتور راتب النابلسي- أن اختلف سليمان وأبناؤه لمسألة من مسائل الحج، فقال: خذوني إلى عطاء، فأخذوه إلى عطاء، وهو في الحرم والناس متحلقون حوله، فأراد سليمان أن يخترق الصفوف ويتقدم إليه وهو الخليفة يحكم ثلث العالم، فقال له عطاء بن أبي رباح: يا أمير المؤمنين! خذ مكانك، ولا تتقدم الناس، لأن الناس قد سبقوك إلى هذا المكان، فلما أتى دوره سأل المسألة، فأجابه، فقال سليمان لأبنائه: عليكم بتقوى الله والتفقه في الدين، فو الله ما ذللت في حياتي إلا لهذا العبد الحبشي، لأن الله يرفع من يشاء لطاعته وإن كان عبدًا حبشيًا لا مال له ولا نسب، ويذل من يشاء بمعصيته، وإن كان ذا حسب ومال.

فإذا عكسنا هذا الأمر وأصبح الناس يستغنون عن علمنا، وأصبحنا نحن نحتاج إلى دنياهم ونطلب منهم ما يملكونه من مال ومتاع،سقط العلم وسقطت منزلة العلماء.   

×