أسوة حسنة على صاحبها ألف ألف تحية وسلام
25 سبتمبر, 2025الدكتور محمود الطَّناحي وكتابه “تاريخ نشر التراث العربي” (2/الأخيرة)
25 سبتمبر, 2025ربيع الأول: من إشراقة الرسالة إلى ترسيخ الأمة واستكمال الدين
ذكي نور عظيم الندوي (لكناؤ، الهند)
ربيع الأول ليس مجرد شهر من شهور السنة الهجرية، بل هو فصل من فصول المجد الإنساني، ومرآة تعكس لحظات خالدة من تاريخ الرسالة، ومشاهد عظيمة من مسيرة الأمة، ومواقف مشرقة من طريق الدين. إنه الشهر الذي احتضن بدايات النور، وضمّ بين أيامه إشراقات لا تنطفئ، ووقائع لا تنسى، وأحداثا صنعت للأمة مجدها، ورسمت لها طريقها، وأرست دعائمها على أسس من الإيمان والتقوى والعدل.
في صباح من صباحات هذا الشهر المبارك، من عام الفيل، يوم الإثنين، وان اختلف في تاريخه، وُلد خير خلق الله، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فكان ميلاده إيذانا بانبلاج فجر جديد، وانطلاق عهد من الرحمة والهداية، وانتهاء زمن من الظلم والضلال. لقد بزغت شمس النبوة في بيت متواضع بمكة، فاهتزّت الأرض، وتبدّلت ملامح التاريخ، وانطفأت نيران المجوس، وتزلزلت عروش الطغيان، وبدأت رحلة النور التي ستغيّر وجه الأرض إلى الأبد. لم تكن ولادته حدثا عابرا، بل كانت نقطة تحول في مسار البشرية، إذ انقشعت غيوم الجهل، وتبددت سحب الظلام، وبدأت الأرض تستقبل أنوار السماء، وتتهيأ لرسالة ستعيد للإنسان كرامته، وللحياة معناها، وللوجود غايته.
لكن ربيع الأول لم يكن حاضنا لميلاد النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل كان شاهدا على تحولات كبرى، ومواقف متنوعة وعديدة، وأحداث عظيمة، منها الهجرة المباركة التي كانت نقطة التحول في تاريخ الإسلام. ففي الثاني عشر من هذا الشهر، خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، تاركا خلفه أرضا ضاقت بأهل الإيمان، متوجها إلى المدينة، حيث استقبلته القلوب قبل الأبواب، واحتضنته النفوس قبل البيوت، فدخلها ليبدأ عهدا جديدا، ويؤسس دولة قائمة على الإيمان، ويقيم مجتمعا تسوده العدالة، وتظله الرحمة، وتربطه الأخوة.
الهجرة لم تكن مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل كانت إعلانا عن ميلاد أمة، وبداية مرحلٍ من التمكين، وانطلاقة نحو بناء حضارة قائمة على التوحيد. لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، لا هاربا، بل حاملا مشعل النور، وماضيا نحو تحقيق وعد الله، فكان دخوله المدينة بداية لعهد جديد، حيث بدأت معالم المجتمع الإسلامي تتشكل، وتأسست قواعد العدالة والمساواة، وارتفعت رايات الإيمان فوق كل اعتبار.
ومن بركات هذا الشهر، تأسيس نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، حيث نسج النبي صلى الله عليه وسلم خيوط الأخوة بين القلوب، قبل أن يجمع الصفوف، فكان ذلك نموذجا فريدا في الإيثار، ومثالا حيًا في التضحية، وتجسيدا رائعا لمعاني الأخوة الإسلامية. لقد تقاسم الأنصار مع إخوانهم كل شيء، حتى القلوب، فكان المجتمع الجديد لا يعرف الطبقية، ولا يميز بين غني وفقير، بل يجمعهم الإيمان، وتوحدهم المحبة، وتربطهم الأخوة الصادقة التي لا تعرف الحدود.
وفي هذا الشهر أيضا، تأسست أول مسجد في الإسلام، مسجد قباء، على أساس التقوى، ليكون أول لبنة في بناء المجتمع الإيماني، وأول نواةٍ للعبادة الجماعية، ومركزًا للتآلف والتعاون. ثم تلاه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، الذي لم يكن مجرد ساحة للعبادة، بل كان جامعة للعلم، ومحكمة للعدل، ومركزا للقيادة، ومجلسا للشورى. من هناك انطلقت حضارة الإسلام، وتخرجت أعظم الأجيال، التي حملت مشعل الهداية إلى العالمين، ونشرت نور الإسلام في الآفاق.
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان قلب المدينة النابض، ومركز القيادة الروحية والسياسية، ومنه انطلقت القرارات، وبه تربّى الصحابة، وفيه نضجت الأفكار، وتبلورت الرؤى، فكان بحقّ منارةً للعلم، ومهدًا للحضارة، ومركزًا للتربية والتهذيب، ومصدرا للعدل والمساواة، وميدانا للشورى والتخطيط، ومحرابا للعبادة والخشوع.
وفي الخامس والعشرين من ربيع الأول، وقعت غزوة دومة الجندل، التي أثبتت أن النصر لا يكون دائما بالسلاح، بل بالحكمة والتدبير، وأن القوة الحقيقية تكمن في العقل، لا في العضلات، وفي الرحمة، لا في القسوة. لقد خضعت القلوب قبل أن تفتح الحصون، وظهر وجه آخر من وجوه العظمة الإسلامية، حيث دخل الناس في دين الله أفواجا، لا خوفا من السيف، بل إعجابا بالعدل، وانبهارا بالحكمة، وانجذابا إلى الرحمة التي يحملها الإسلام.
لكن هذا الشهر، الذي شهد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، شهد أيضا رحيله عن الدنيا بعد أن أكمل الله دينه وأتم على أمته صلى الله عليه وسلم نعمه ورضي لهم طريقه وسنته دينا، ففي صباح الإثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، أسلم النبي صلى الله عليه وسلم الروح، وارتجّت المدينة حزنا، وسكنت القلوب ألما، وذرفت العيون دموعا، واهتزّت النفوس لفقدان من كان رحمة للعالمين، وهداية للناس أجمعين. لقد كانت وفاته صدمة عظيمة، لكنها كانت أيضا اختبارا للأمة، لتثبت أنها فهمت الرسالة، واستوعبت المنهج، واستعدت لتحمل المسؤولية، فكان اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة للمسلمين أيضا في شهر ربيع الأول، إعلانا عن نضج الأمة، واستعدادها للقيادة، وقدرتها على الاستمرار في طريق النور.
ربيع الأول ليس مجرد ذكرى، بل هو دعوة دائمة للعودة إلى النبع الصافي، إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، إلى قيم الأخوة، والعدل، والتقوى، والتضحية. إنه شهر يذكرنا بأن الرسالة لم تنته، وأن علينا أن نحمل المشعل، ونواصل المسير، وننشر النور في كل ركن من أركان العالم. إنه شهر اليقظة، والوفاء، والمحبة، والقيادة، فلتكن أيامه نبراسا لنا، نستنير بها في دروب الحياة، ونستمد منها العزم لنكون خير خلفٍ لخير سلف.
إنه شهر يعلمنا أن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بداية النور، وهجرته كانت بداية الأمة، ومؤاخاته كانت بداية المجتمع، ومساجده كانت بداية الحضارة، وغزواته كانت بداية الانتصار، ووفاته كانت بداية المسؤولية. فكل لحظة من لحظات ربيع الأول تحمل درسا، وكل مشهد فيه يحمل عبرة، وكل حدث فيه يحمل رسالة.
ربيع الأول يعلمنا أن الحب الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بالاحتفال فقط، بل بالاقتداء، ولا يكون بالشعارات، بل بالأعمال، ولا يكون بالكلمات، بل بالسلوك. فلتكن محبتنا له صلى الله عليه وسلم نورا في قلوبنا، وهدى في أعمالنا، وصدقا في تعاملنا، وإخلاصا في عبادتنا. إنه شهر التذكير بأن الرسالة مستمرة، وأن المنهج واضح، وأن الطريق مفتوح، وأن النور لا يزال يسطع، وأن علينا أن نكون من حملة المشعل، وسفراء النور، وروّاد الخير.
فربيع الأول هو شهر تتجدد فيه معاني الإيمان، وتستعاد فيه صور البطولة، وتستحضر فيه مواقف العظمة، وتستنهض فيه همم الأمة، لتسير على خطى النبي صلى الله عليه وسلم، وتحقق رسالته، وتبلغ غايته، وتكون بحقّ خير أمة أخرجت للناس.