ربيع الإنسانية الدائم

أولياء الفساد في الأرض
21 أغسطس, 2025
أولياء الفساد في الأرض
21 أغسطس, 2025

ربيع الإنسانية الدائم

سعيد الأعظمي الندوي
يعيش العالم البشري اليوم في جميع قطاعات الحياة أوضاعًا شاذة غير طبيعية، فالقوي يقتل الضعيف، والغني يأكل الفقير، والبريء يؤخذ بالتهم والجرائم الكاذبة، ويزج في السجن، أضف إلى ذلك أخطار الحروب والمقاتلات والمجاعات التي تفرض على الشعوب والجماهير فى بلد دون بلد، أما صفات العدل والمنة والإحسان والمساواة بين بني البشر على أساس الإنسانية، فهي مفقودة وصارت مثالا لعنقاء المغرب، كأن العالم المتمدن تحول إلى غابة يعيش فيها السباع الضواري، إلا أن السبع لا يقتل نظيره، ولا يحتل أجمته، ولا يطارده طردًا من الغابة.
كأن مثل هذا الوضع المخيف كان مسيطرًا على المجتمع الإنساني في القرون المظلمة وفي القرن السادس الميلادي بالذات على المستوى العالمي، ورغم وجود حضارتين راقيتين في العالم شرقًا وغربًا نالت جميع الأدواء الخلقية طريقها نحو مجتمعات الناس ونفوسهم، من الظلم والبغضاء، والكبر والأنانية والضرب والقتل والاعتداء على الأعراض والأموال، ثم الفساد في الأرض، كل ذلك أصبح ميزة اجتماعية لا يكاد يوجد من يحاربها أو يقوم بدعوة إلى إصلاحها.
لذلك فإن الله تعالى قضى أن يبين للإنسان طريقه الطبيعي نحو العيش في هذه الدنيا، ويخرجه من جميع المتاهات التي تاه فيها فترة طويلة تمتد على خمسة قرون ونحو سبعين عامًا، ولم يعرف غاية خلقه في هذا العالم البشري وفي الكون الممتد على مساحة واسعة لا نهاية لها، فأراد الله سبحانه وتعالى أن ينقذه من هذا الوضع الخطير ويخرجه من زاوية اليأس والذوبان التي كانت تستولي عليه من كل جانب، وتمنعه من الخروج إلى الجو الطبيعي والكائنات الواسعة حتى يتنفس فيها ويتعرف على مسئوليته الأصيلة التي خلق من أجلها، ألا وهي عبادة الله تعالى التي تمهد الطريق إلى الفضائل الإنسانية، ويربط مصير العالم البشري بالله تعالى ويوجهه إلى الاتصال بالملكوت الدائم الذي يشرف على الكون وما فيه من مخلوقات وآيات بغاية من الدقة والبراعة والجمال.
لكي يتحقق هذا الغرض السامي من الصلة الدائمة بين الخلق والخالق، كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنقذ العالم من حياة غير طبيعية إلى حياة هادفة تتفاعل مع الطبيعة البشرية، إنه عرض على المجتمعات التائهة منهجًا للحياة التي ينتجى فيها المرء من الخضوع أمام غير الله تعالى من الكهنة والرهبان والأصنام والأوهام، ذلك أن رسولنا العظيم المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يبعث في أمة خاصة أو شعب واحد أو منطقة معلومة، إنما بعث رحمة للعالمين جميعًا. يقول الله تعالى: “يأيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا”. وقال النبي: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وقال: “بعثت معلمًا” وقال: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”، وقد رفع الله تعالى مكانته عالية بين الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله تعالى، فأدب أهل الإيمان أن لا يقدموا بين يدي رسول الله، ومنعهم عن رفع الأصوات فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الجهر بالقول كما يفعل بعضكم مع بعض، ذلك لأن سوء الأدب إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى حبط الأعمال وضياع الإيمان، وذهاب التقوى من القلوب، يقول الله تعالى في سورة الحجرات، ويبدؤها بتعليم الآداب معه صلى الله عليه وسلم: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ”(الحجرات:1–5).
إن نبينا صلى الله عليه وسلم الذي هذا شأنه مع الله تعالى، فكيف يكون دوره مع الناس، وماذا سيجنون من ثمار السعادة وآداب العيش مع الله تعالى ومع عباده بواسطة هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم الذي منح العالم حياة من جديد، وكان ربيعًا للإنسانية التي كانت فقدت قيمتها وبلغت إلى نهايتها الأخيرة، ولكن الله سبحانه منَّ عليها فمدَّ في عمرها وفتح لها طريق السعادة: “وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا “(آل عمران:103). صدق الله العظيم.