الإسلام والسلام العالمي في الإسلام
21 أغسطس, 2022كيف لا أحبّه صلى الله عليه وسلم؟
6 أكتوبر, 2022أدب الحديث
الشيخ محمد الغزالي
الكلام الطيب خصلة تسلك مع ضروب البر ومظاهر الفضل، التي ترشح صاحبها لرضوان الله، وتكتب له النعيم المقيم، فعن أنس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم:
“علمني عملا يدخلني الجنة، قال: أطعم الطعام، وأفش السلام، وأطب الكلام، وصل بالليل والناس نيام، تدخل الجنة بسلام”(1).
وقد أمر الله عز وجل، بأن يكون حِجاجنا مع أصحاب الأديان الأخرى في هذا النطاق الهادئ الكريم، لا عنف فيه ولا نكر، إلا أن يجور علينا امرؤ أثيم، فيجب كبح جماحه، ومنع اعتدائه.
“وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ” [العنكبوت: 46].
وعظماء الرجال يلتزمون في أحوالهم جميعًا ألا تبدو منهم لفظة نابية ويتحرجون مع صنوف الخلق أن يكونوا سفهاء أو متطاولين.
ومن الناس من يعيش صفيق الوجه، شرس الطبع لا يحجزه عن المباذل يقين، ولا تلزمه المكارم مروءة، ولا يبالي أن يتعرض للآخرين بما يكرهون؛ فإذا وجد مجالاً يشبع فيه طبيعته النزقة الجهول، انطلق على وجهه لا ينتهي له صياح، ولا تنجس له شرة.
والرجل النبيل لا ينبغي أن يشتبك في حديث مع هؤلاء، فإن استشارة نزقهم فساد كبير، وسد ذريعته واجب؛ ومن ثم شرع الإسلام مداراة السفهاء.
حدث أن وقف رجل من أولئك الجهال أمام بيت الرسول يريد الدخول، فرأى النبي أن يحاسنه حتى صرفه، ولم يكن من ذلك بد – فالحلم فدام(2) السفيه – ولو تركه يسكب ما في طبيعته الفظة لسمع ما تتنزه عنه أذناه!!
وعن عائشة قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “بئس أخو العشيرة هو” فلما دخل انبسط إليه وألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله، حين سمعت الرجل قلت: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه! فقال: “يا عائشة متى عهدتني فاحشًا؟ إن من شر الناس عند الله تعالى منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه”(3).
وهذا مسلك تصدقه التجارب؛ فإن الرجل لا يسوغ أن يفقد خلقه مع من لا خلق لهم. ولو أنه شغل بتأديب كل جهول يلقاه لأعيته الحيل من كثرة ما سوف يلقى؛ ولذلك عد القرآن الكريم في أوائل الصفات التي يتحلى بها عباد الرحمن، هذه المداراة العاصمة:
“وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا” [الفرقان: 63].
“وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ” [القصص: 55].
وقد يكظم الإنسان غيظه مرة أو مرتين ثم ينفجر، بيد أن المطلوب من المسلم الفاضل أن يطاول ا لأذى أكثر من ذلك حتى لا يدع الشر يسيطر على الموقف آخر الأمر.
عن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه قال: “بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه وقع رجل بأبي بكر، فآذاه، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية فصمت عنه، ثم آذاه الثالثة، فانتصر منه أبو بكر رضي الله عنه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتصر أبو بكر.. فقال أبو بكر: أوجدت علي يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن نزل ملك من السماء يكذبه بما قال، فلما انتصرت، ذهب الملك، وقعد الشيطان، فلم أكن أجلس إذ قعد الشيطان”(4).
ومداراة السفهاء لا تعني قبول الدنية؛ فالفرق بين الحالين بعيد:
الأولى: ضبط النفس أمام عوامل الاستفزاز، ومنعها طوعًا أو كرهًا من أن تستجيشها دواعي الغضب وإدراك الثأر.
أما الأخرى: فهي بلادة النفس، واستكانتها إلى الهون! وقبولها ما لا يرضى به ذو عقل أو مروءة.
وقد أعلن القرآن محبته لمداراة السفهاء وكراهيته لقبول الدنية فقال تعالى:
“لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا” [النساء: 148-149].
ومن الضمانات التي اتخذها الإسلام لصيانة الكلام عن النزق والهوى تحريمه الجدل، وسده لأبوابه، حقًا كان أو باطلاً.
ذلك أن هناك أحوالاً تستبد بالنفس، وتغري بالمغالبة، وتجعل المرء يناوش غيره بالحديث، ويصيد الشبهات التي تدعم جانبه، والعبارات التي تروج حجته، فيكون حب الانتصار عنده أهم من إظهار الحق، وتبرز طبائع العناد والأثرة في صور منكرة، لا يبقى معها مكان لتبين أو طمأنينة!!
والإسلام ينفر من هذه الأحوال ويعدها خطرًا على الدين والفضيلة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن تركه وهو محق بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها”(5).
وهناك أناس أوتوا بسطة في ألسنتهم، تغريهم بالاشتباك مع العالم والجاهل، وتجعل الكلام لديهم شهوة غالبة، فهم لا يملونه أبدًا.
وهذا الصنف إذا سلط ذلاقته على شئون الناس أساء، وإذا سلطها على حقائق الدين شوه جمالها وأضاع هيبتها.
وقد سخط الإسلام أشد السخط على هذا الفريق الثرثار المتقعر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم”(6). وقال: “ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل”(7).
هذا الصنف لا يقف ببسطة لسانه عند حد، إنه يريد الكلام فحسب، يريد أن يباهي به ويستطيل، إن الألفاظ تأتي في المرتبة الأولى، والمعاني في المرتبة الثانية، أما الغرض النبيل فربما كان له موضوع آخر، وربما عز له موضع وسط هذا الصخب.
ولقد حدث أن واحدًا من أولئك الأغرار وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم: “… عليه شارة حسنة” فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بكلام إلا كلفته نفسه أن يأتي بكلام يعلو كلام النبي صلى الله عليه وسلم!! فلما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا يحب هذا وأضرابه، يلوون ألسنتهم للناس ليّ البقر بلسانها المرعى، كذلك يلوي الله تعالى ألسنتهم ووجوههم في النار”(8).
والجدال في الدين، والجدال في السياسة، والجدال في العلوم والآداب عندما يتصدى له هذا النفر من الأدعياء البلغاء، يفسد به الدين، وتفسد السياسة والعلوم والآداب. ولعل السبب في الانهيار العمراني، والتحزب الفقهي، وا لانقسام الطائفي، وغير ذلك مما أصاب الأمة الإسلامية، هو هذا الجدل الملعون في حقائق الدين، وشئون الحياة.
والجدل أبعد شيء عن البحث النزيه والاستدلال الموفق.
روي عن عدد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قالوا: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا، فقال: “مهلاً يا أمة محمد، إنما هلك من كان قبلكهم بهذا، أخذوا المراء لقلة خيره. ذروا المراء، فإن المؤمن لا يماري، ذروا المراء، فإن المماري قد نمت خسارته، ذروا المراء، فكفاك إثمًا أن لا تزال مماريًا، ذروا المراء، فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء، فأنا زعيم بثلاث أبيات في الجنة في رباضها، ووسطها، وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق(9).
وللناس مجالس يتجاذبون أطراف الحديث فهيا، والإسلام يكره مجالس القاعدين، الذين يقضون أوقاتهم في تسقط الأخبار وتتبع العيوب؛ لأن لهم فضول أموال يستريحون في ظلها، وليسوا يجدون شغلاً إلا في التسلي بشئون الآخرين.
“وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ” [الهمزة: 1-5].
وقد فشا في عصرنا هذا جلوس الجماهير في النوادي والمشارب.
وتلك آفة أصابت المجتمع بعلل شتى، وقد كثرت في المدائن والقرى لغير ضرورة مشروعة.
وفي الحديث: “إياكم والجلوس في الطرقات” قالوا: يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه” قالوا: وما حقه؟ قال: “غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر”(10).
الهوامش:
- مسند البزار: 6996 (المجلة)
- الفدام والفدامة: ما يوضع على الفم سدادًا له (المجلة)
- صحيح البخاري، (بنحوه)، حديث رقم: 6054 (المجلة)
- سنن أبي داؤد، (بنحوه)، حديث رقم: 4896 (المجلة)
- سنن ابن ماجه، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، بلفظ: “من ترك الكذب وهو باطل بني له قصر في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها”، حديث رقم: 51 (المجلة)
- صحيح البخاري، عن عائشة رضي الله تعالى عنها حديث رقم: 2457 (المجلة)
- سنن الترمذي، عن أبي أمامة رضي الله عنه، حديث رقم: 3253 (المجلة)
- صحيح الترغيب والترهيب، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض – المملكة العربية السعودية، ط: 1، سنة 1421هـ / 2000م، 3/250، حديث رقم: 3207 (المجلة)
- المعجم الكبير، للطبراني، حديث رقم: 7659 (المجلة)
- صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، حديث رقم: 2121 (المجلة)(مع الشكر لمجلة الأزهر، أغسطس 2022م)