كيف يمكن بناء الحياة الاجتماعية السعيدة؟!
21 سبتمبر, 2019الإنسان بين الفساد والصلاح!
20 أكتوبر, 2019من تواضع لله رفعه الله
هذه الحقيقة الناصعة رافقت الأمة في كل فترة من التاريخ، فقد شهد المجتمع البشري هذه الحقيقة العملية في كل فترة من تاريخه، وقد تغلبت على الكبر والغرور والترفُّع، ولاسيما في فجر التاريخ الإسلامي حيث توافر عدد كبير من الناس خضعوا أمام الحق وصبروا على كل ظلم وعدوان، فعوَّضهم الله تعالى عن ذلك عزة ورفعة وعلواً،ولما خضع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لمحمد صلى الله عليه وسلم، (وكان من ألد أعدائه) أمام آيات من كتاب الله تتلوها أخته، وكان في طريقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملاً معه السيف ليقتله إذا به يرعوي عن غيه ويصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويُسلم إسلاماً لا يساويه شيء أمام ذلك الشرف،ويدخل حب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قلبه ويمتزج بلحمه ودمه حتى أصبح من أكبر المحبين له بعد أن كان من أشد أعدائه المتكبرين.
والتاريخ الإسلامي يزخر بأمثال هذا الواقع الذي أخرج الإنسان المتكبر المعادي من مرحلة الصلف والغرور إلى الجو الواسع للتواضع والخضوع للحق والصدق، وقد كان العرب الجاهلي يتميز بتفاخر النسب وتعاظم الآباء والأجداد، وكانت هناك تميزات بالقوة المادية وكثرة الأنصار والأصدقاء،فلم يتجنبوا الاستكبار أمام الضعيف أو قليل العَدد والعُدد، ولم تكن الحروب التي استمرت بعض الأحيان إلى مدة طويلة إلا نتيجة الكبر والرياء والاعتداد بالمال والثراء أو شرف النسب، حتى تفرق الناس في فرق وجماعات،وزالت الاجتماعية المخلصة لبناء المجتمع الإنساني الصالح،فلما طلعت شمس الإسلام من أفق تهامة، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم كخاتم النبيين دعا الناس إلى الأخوة الصادقة والوحدة الإسلامية، وأعلن أن: “لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، كلكم من آدم وآدم خلق من تراب”، فاضطر الناس إلى التفكير في هذا الإعلان العجيب الذي سمعوه لأول مرة، وتعمقوا إلى مغزاه حتى توافر لهم التوصل إلى مكانة الإنسان الطبيعية، وتيسر ترك التفاخر بالآباء والأنساب وتأكدواأن مبدأهم التراب ومصيرهم التراب، ولا مجال لأيّ تميُّز مالي أو نسبي في المجتمعات الإنسانية، أما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتجول في أحياء المدينة في أعماق الليالي ليطلع على أحوال الناس ويتفقد حاجاتهم من غير أن يكون محروساً بواسطة الحراس ورجال العساكر، بلي: فإن التاريخ البشري يسجل دقائق حياته وحقائق أموره التي عاشها وهو أعظم حاكم وخليفة الإسلام والمسلمين، ومن هنالك رفعه الله إلى درجات عالية في هذه الدنيا وجعله مثالاً للحاكم المسلم المثالي، وقد تحدث رضي الله عنه وهو على المنبر فقال: يا أيها الناس تواضعوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه صغير وفي أعين الناس عظيم ومن تكبر وضعه الله، فهو في أعين الناس صغير وفي نفسه كبير، وحتى هو أهون عليهم من كلب أو خنزير (حديث مرفوع رواه عابس بن ربيعة)
فلنتصور للحظة واحدة الفرق الكبير والبون الشاسع بين الإنسان المتواضع والإنسان المتكبر،فإن التواضع من غير شك خلة العلماء والدعاة وميزتهم التي تجعلهم من المتقربين إلى الله تعالى، ولذلك فإن التواضع لوجه الله تعالى وللعمل بمرضاته مطلوب المؤمن ونقطة انطلاق إلى درجات رفيعة في الدين،وهو مقبول لدى كل طبقة، ولكنه مشروط بأن لا يكون إلاّ لله وحده لا لغيره، أما التواضع للناس لأغراض مادية أو لمطالب الطمع والجشع، لإحراز نفع حقير من الدنيا فلا شأن له ولا قيمة، عند الله تعالى.
إن الإنسان يمثل التواضع للاسترحام أو لكسب شيء حقير من الدنيا فإذا تحقق غرضه رجع إلى فطرته الأولى من العنجهية والكبر، واحتقار العلماء وأهل الدين، وقد يتواضع لكسب منفعة حقيرة جداً ويصبح عبداً لمن يرجو منه متعة من الدنيا أو مالاً مشبوها، وإن كان ذلك صدقة أو أقل من ذلك!
فأين وجد فيه التواضع لله؟ وكيف أصبح ضمن المتواضعين لله؟ ذلك أن التواضع لله من كل نوع يكون لله، إذا كان الغرض الثقة المخلصة لله تعالى في مجال العمل لله وإعلاء كلمة الله وتوجيه الناس إلى هذه الحقيقة التي مصدرها الإخلاص لله، ليس غير.
وقد مثل الصحابة رضي الله عنهم هذه الحقيقة في حياتهم بكاملها، والذين ساروا على دربهم وفوضوا حياتهم لله ونشر دينه وتعاليمه وإعلاء كلمته، فانطبق عليهم “من تواضع لله في سبيل الدعوة إلى الله تعالى وتحمَّل كل مشقة في سبيلها فهو مقبول عند الله تعالى، أما من تواضع للحصول على نفع حقير من الدنيا فليس ذلك من الله في شيء، وكيف يكون مرفوع الرأس في عين الله تعالى، الذي يقول: “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” [الحجرات:13]. والله ولي التوفيق.
(سعيد الأعظمي الندوي)