ليتنا كنا خير أمة أخرجت للناس
17 أكتوبر, 2018عصرنة الحياة والمجتمع
14 نوفمبر, 2018بين الأسلمة والعصرنة
أ ليس من آثار استكانة المسلمين وعجزهم عن أداء رسالة الإنسانية أن يعيشوا متفرقي الاتجاهات والغايات، ويتناسوا الوحدة التي أُكرموا بها من خلال الوحدة العقدية والأخوة الإيمانية التي جاء بها الإسلام ومثَّل بها رسولنا العظيم كميزة أعضاء الأمة الإسلامية فقال: ” مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” فكان عهد الخلافة الإسلامية ألمع عهود التاريخ البشري الذي شهد نماذج نادرة من السعادة والعلو والقيادة العالمية التي مهدت الطريق نحو اتصال الأرض بالسماء، والتعايش في أجواء الحب والمودة والإيثار والتناصح في جانب، وفي ناحية أخرى التنافس في التقرب إلى الله، وذلك بالعمل الخالص في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بهذه القدوة السامية والشعور بلذة الإيمان في كل صغير وكبير، عشنا نحن المسلمين في العصور السابقة، فكان دافع أسلمة الحياة والمجتمع وصبغهما بصبغة الله الدائمة الثابتة، سيرة الأفراد والجماعات لهذه الأمة، فكلما وجد أي شأن من شئون الناس مغايراً لهذه الميزة المتميزة من الصبغة الإيمانية أسرع الناس إلى إزالة كل لون آخر يضادها أو يشوهها،وتناولوه بالأسلمة وتطهيره من كل ما يغاير طبيعة اللون الإيماني، وظل أعضاء هذه الأمة دائبين على هذه الوطيرة بروح من الموضوعية الدعوية والعاطفة الإيمانية الخالصة ولم يفارقهم في أي مرحلة -مهما كانت دقيقة وصعبة- معاني الحكمة والموعظة الحسنة، ولم يتغافلوا طريق المجادلة بالتي هي أحسن كلما مست الحاحة إلي ذلك.
ومن هنا نستطيع أن نعبر عن هذه الدعوة بكلمة “الأسلَمة” التي تعنى خلع لباس الإسلام على كل جزء من من الحياة الفردية والجماعية وصبغها بصبغة الإسلام الكامل من غير استثناء، فهكذا كان دعاة الإسلام لا يرضون بأي حال أن تكون الحياة فارغة ولو بقدر ذرة عن روح الإسلام ولونه، وكانوا يعلنون بكل جهارة وصراحة أنهم مسلمون يعيشون الإسلام ليس غير ” وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ” (فصلت:33) وبذلك كانوا يمثلون حياتهم في إخلاص الدعوة إلى الله تعالى وصالح الأعمال، ويعتزون بالإسلام ويفتخرون به قائلين:” إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ” فكانوا يخرجون الجماعات التائهة في الظلام والعائشة في الجهل المطبق، إلى نور الهداية والعلم، وبذلك كانت تتكامل عملية “الأسلمة” والصبغ بصبغة الإسلام.
وجاء العصر الحديث والحضارة الجديدة التي ازدهرت فيها عوامل الحداثة التي تأثر بها الناس وأعجبوا بالآليات التي منحت العالم سرعة الكهرباء والبرق، وتطورت حتى جعلت الحياة غير ما عرفه الناس في عصورهم السابقة، وتغير مع ذلك تفكيرهم في كل أمر، فحلت الكراهية محل الاعتزاز بالعودة إلى الله تعالى، وقامت دعوات مشبوهة في المجتمعات الإسلامية باسم المسايرة مع الطبيعة التي فطر عليها الإنسان بدليل أنها فطرة الله التي فطر عليها الناس، وهي تدعو الإنسان إلى أن يسايرها في جميع شئون الحياة، ويستجيب نداءها في كل ما ينسجم مع الفطرة ويشبعها، ولكنه بهذا المعنى للمسايرة مع الطبيعة كان في الواقع راضياً بإدخال ما ليس من دين الله في شيء، وكأنه أيقن أن التطورات الحضارية تؤثر في الدين وتجعله متفقاً مع كل تطوُّر لكي يكون الدين يسراً ويكون العمل به سهلاً، وهو يتناسى أن هذا الدين متطابق لكل بيئة ومجتمع في العالم كله مع خلوده ونقائه ودوام تأثيره من جميع النواحي الفردية والجماعية، وجوانبه الظاهرة والباطنة.
ومن هنا تنال عملية “العصرنة” التي بدأها المناؤون للدين لتشويه صورته وإزاحة المسلمين عن جادتهم الطبيعية التي أنزلها الله سبحانه ولقّنها عباده المسلمين وغيرهم بقوله:” اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ” (الفاتحة:6-7) وقد نجح هؤلاء المفسدون في الأرض في أغراضهم الرخيصة الخسيسة، ونشأت هناك طبقة من المسلمين زعمت أن العصر تغيَّر، فلا مناص من قبول تغيُّرات في الدين وعصرنته في عصر العلوم التقنية والفلسفات الحضارية لكي لا يتأخر الإسلام في مجالات الحياة والمجتمع، ويساير المسلمون مع الزمن خطوة إلى خطوة، ويستفيد من كل الإبداعات العلمية والحضارية في جميع المشكلات والقضايا والله سبحانه تعالى يقول: ” وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ” (الإسراء:85). (للحديث بقية)
(سعيد الأعظمي الندوي)