أمراض المجتمع وعلاجها (16)

تأملات في جوهر الإيمان
11 ديسمبر, 2025
“صحيفة المدينة “دراسة حديثية وتحقيق للدكتور هارون رشيد الصديقي (2)
11 ديسمبر, 2025
تأملات في جوهر الإيمان
11 ديسمبر, 2025
“صحيفة المدينة “دراسة حديثية وتحقيق للدكتور هارون رشيد الصديقي (2)
11 ديسمبر, 2025

أمراض المجتمع وعلاجها (16)

فضيلة الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي
[ترجمة: سعد مبين الحق الندوي]
الخيانة:
الخيانة من أعظم الآثام وأكبر المعاصي، وقد أمر الله تعالى بأداء الأمانات إلى أهلها، فقال: «إنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُم أن تُؤدّوا الأماناتِ إلى أهلِها» [النساء: 58]
وهو أمرٌ عام يشمل كلّ أمانة، مادية كانت أو معنوية، ظاهرة أو خفيّة، سواء في الأموال أو الأعمال، في الأقوال أو الأسرار، لكنّ المال ميدان عظيم لابتلاء الأمانة، إذ يجب على الإنسان أن يردّ المال إلى مالكه، ولا يجوز له أن يتصرّف فيه – ولو أدنى تصرّف – دون إذنه، فإنّ هذا من الخيانة، والظلم.
يقول الله تعالى محذّرًا عباده من أكل أموال الناس بالباطل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ» [النساء: 29]
فالأمن في الدنيا لا يقوم إلا حين تُصان الحقوق، وتُحترم الحدود، وتُرعى الأمانات، أما إذا هُدمت هذه القيم، وضاعت هذه الضوابط، تحوّلت الحياة إلى فوضى، والناس إلى ذئاب، والدنيا إلى جحيم.
وما نراه اليوم من اضطرابٍ وقلق، ومن صراع على كلّ المستويات – فردية أو جماعية أو حتى دولية – فإنما مصدره فقدان الأمانة، وغلبة الخيانة، إذ لا أحد يريد أن يلتزم بما عليه، بل يزاحم على ما لا يستحقّ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا عن الظلم والخيانة: (مَنْ ظَلَمَ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ). (صحيح البخاري: كتاب المظالم، باب اثم من ظلم شيئا……….: 2320) وقال صلى الله عليه وسلم: “على اليَدِ ما أخَذَت حَتَّى تُؤَدّيَه”؛ “لا يَحِلُّ لامرِئ أن يأخذَ عَصا أخيه بغَيرِ طيبِ نَفسِه”. وذَلِكَ لِشِدَّةِ ما حَرَّمَ اللَّهُ عز وجل مالَ المُسلِمِ على المُسلِمِ. (السنن الكبرى للبيهقي: كتاب الغصب، باب من غصب لوحا….: 11652).
وهذه الخيانة لا تقع في صورة واحدة، بل تُمارَس جهرًا وخفية، وتُلبَس أحيانًا لباس الذكاء والحيلة. ومع استمرارها، يقسو القلب، حتى يفقد الإنسان القدرة على قبول الموعظة. بل يبلغ الحال ببعضهم أن يعدّ الخداع فخرًا، والمكرَ حُنْكَةً، مع أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال بصراحة لا لبس فيها: «من غشّنا فليس منا». (صحيح مسلم: كتاب الايمان، باب قول النبي من غشنا فليس منا: 294)، وقد أورد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن لطائفَ رقيقة ودقائق عميقة حيث «مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ، يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي». (صحيح مسلم: كتاب الايمان، باب من غشنا فليس منا: 295)
ومهما تنوّعت الوسائل، فإن أخذ أموال الناس بغير حقّ، سواء بالاحتيال أو بالغلبة والقهر، هو خيانة وغدر، وهو من أعظم الذنوب المتعلّقة بحقوق العباد التي لا تُغفر إلا بأداء الحقوق أو مسامحة أهلها. وخطرها لا يتوقف عند الدنيا، بل يمتدّ أثرها إلى الآخرة.
وقد نبّه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المصير الرهيب في حديثه المشهور، حين سأل الصحابة يومًا: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: “المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع”. فقال صلى الله عليه وسلم: “إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار”. (صحيح مسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم: 7644).
وكم من الناس اليوم يستحوذون على ما ليس لهم، من أرضٍ أو دارٍ أو دكّان، ظلماً وعدوانًا، عن طريق الاحتيال أو التزوير أو المرافعات الباطلة! فيغتصبون الحقوق، ويتملّكون أملاكَ غيرهم بغير حقّ، ويظنّون أنهم قد ربحوا، وهم في الحقيقة قد أخذوا قطعة من النار.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم محذرًا: “من اقتطع شبرًا من الأرض بغير حق طوّقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين.” (صحيح مسلم: كتاب البيوع، ‌‌بَابُ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَغَصْبِ الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا: 1610)
وجاء في كتاب الله، تأكيد على هذا المعنى الجليل: “وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” (البقرة: 188)
وإن كان هذا الظلم موجّهًا إلى ضعيفٍ لا ناصر له، أو يتيمٍ فقد الحامي والمعين، أو عاجزٍ لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الأذى، فإن الجُرم يزداد وخامة. وقد توعّد الله تعالى من يعتدي على أموال اليتامى بأشدّ الوعيد، فقال جلّ جلاله: “إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا” (النساء: 10)
فكلّ مالٍ أُخذ بباطل وظلم وعدوان، ولو باسم القانون، فهو سُحتٌ يحمل في طيّاته لعناتٍ لا تنفك، ويكون على صاحبه يوم القيامة وبالاً، لا ينفع معه تبريرٌ ولا ادّعاء.
نقص الكيل والميزان:
ومن أشنع صور الخيانة ما يقع في نَقصِ الكَيْل والميزان، وهي آفةٌ خطيرةٌ طالما أهلكت أممًا وأزالت حضارات. ولأجل هذا الانحراف بعث الله تعالى نبيَّه شعيبًا عليه السلام إلى قومه، يدعوهم إلى العدالة والصدق في المعاملة، فلمّا كذبوه واستمروا في تطفيفهم، أخذهم الله بأخذ عزيز مقتدر.
وهذا الداء تفشّى كما تتفشّى الأوبئة، حتى عمّ الصالح والطالح، فلا يسلم منه إلا من رحم الله. وقد توعّد الله المطفّفين في آياتٍ تتلى، فقال: “وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ” (المطففين: 1–7).
فيا له من إنذارٍ شديدٍ، ووعيدٍ مرعبٍ، لمن يظنّ أن الغش ينجي، أو أن الخيانة تُغني. إنها صيحةٌ ربانية، توقظ القلوب وتُقيم ميزان العدل في الأسواق والضمائر. ولم تكتفِ الآيات بوعيدٍ شديد للمطفّفين، بل وصفتهم بالفجور والفسق، وجعلت مصيرهم إلى سجين، سجينٍ من نارٍ وذلّ، لا يُطاق. ولهذا شدّد القرآن النكير، ووجّه الخطاب للمؤمنين بأن يكونوا قدوةً في العدل والميزان، فقال سبحانه: “وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا” (الإسراء:35) وفي ختام الآيات يظهر جليًّا أن من يُخِلُّ في الميزان ولو بدا له نفعٌ عاجل، فإن عاقبته وخيمة في الدنيا قبل الآخرة، إذ لا بركة في مالٍ أُخذ بالغدر، ولا طمأنينة في قلبٍ خان الأمانة.
فالإسلام دين الطهارة الظاهرة والباطنة، يدعو إلى حياة نقية من الغش والخيانة والتعدّي، ويغرس في القلوب فكرة الآخرة، ويقينَ الحساب، وهو الأساس الذي عليه تُبنى التقوى وبه تستقيم الحياة.