الحاجة إلى الأطباء الناصحين
26 نوفمبر, 2022إلى منهج جديد لعرض الإسلام وترشيد العمل الإسلامي
26 نوفمبر, 2022الإنسان الطموح بين اليأس والرجاء
محمد الحسني
إن الإنسان لا يحب أن يموت، ولا يحب أن يفنى، ولا يرضى لنفسه أن يكون ذرة حقيرة تافهة في هذا الكون الفسيح، أو ريشة في مهب الرياح.
إنه طبع على حب الحياة، وحب الخلود، وحب السيطرة، فهو يحب أن يلمس كل جميل وينال كل جديد، ويشم كل زهر، ويتمتع بكل لذة في وقت واحد، لا تخونه نعمة من نعم الدنيا، ولا تفوته لذة من لذات الحياة، إنه يحب أن يجمع في نفسه الواحدة سعادة الدنيا كلها، وجمال الكون كله، وهذا لا يقنعه ولا يهدئ من أواره فيبقى في ظمأ مستمر وحسرة دائمة لا يزال ينادي هل من مزيد؟ هل من مزيد؟ لا تكفيه هذه الدنيا ولا تتسع لرغباته ومطامحه فيتوجه إلى الجو ويطير نحو السماء عسى أن يجد شيئاً جديداً وينال صيداً سميناً.
هذا هو الإنسان، وتلك هي مطامحه ورغباته، وآماله وأحلامه، وهي آمال وأحلام لا يمكن لأعظم ملك من ملوك الأرض، ولأقوى دولة من دول العالم أن تحقق منها جزءاً فضلاً عن كل، وهي رغبات ومطامح لا يمكن أحداً أن يحققها ولو أوتي كنز قارون وحكمة لقمان، ولو تكدس عنده دهاء العقلاء أجمعين وثروة الملوك أجمعين.
فما هو الطريق إذاً؟؟
هل نترك الإنسان هكذا حائراً مشدوهاً، يقضي أيامه في هذه الدنيا ما شاء الله أن يقضي ويتمتع بالحياة ما شاء الله أن يتمتع ثم يصير إلى الفناء كالأجسام الحية الأخرى ويقضي على مستقبلة ومطامحه وأحلامه وآماله للأبد:
هنا طريقان!
الطريق الأول للإنسان أن يؤمن ويعتقد أن هذه الدنيا هي الأمنية الوحيدة التي يستطيع أن يحلم بها، فيبالغ في تقديسها وإجلالها وحبها والتفاني فيها حتى يأتيه اليقين ويقضي عليه الموت وهو لم يشبع منها نهمته ولم يرو غلته ويريد أن يسخرها لأهوائه ويخضعها لإرادته ويرتوي منها ما يشاء فيجدها مليئة بالأشواك محفوفة بالمخاوف مفطورة على الغدر والجفاء ويهبها قلبه وشعوره وروحه وجسده وكل ما يملك فيجدها تغدر به وتسخر منه وتتفلت من يده وتلقيه في عذاب تهدم كيانه وتحطم أعصابه.
إن هذا الطريق يحدث في الإنسان رد فعل شديد فيركز كل همه في هذا العالم المحدود، ولا يستطيع أن يفكر في آفاق أخرى غير محدودة تليق بإنسانيته وكرامته وتجدر لطيرانه وطموحه، وكلما تزداد هذه الدنيا غدراً وجفاءاً يزيد هو حباً لها وافتتاناً بها ويجري وراءها كالمفجوع الذي رزئ في رأس ماله أو الواله التي فقدت وحيدتها، وذلك لأنه لا يعلم مجالاً أفسح من هذا المجال ولا يعرف حقيقة أسمى من هذه الحقيقة البسيطة التي يراها بالعين ويلمسها بالبنان ولا يستطيع أن يفكر في أكثر من ذلك، فطريقه يرغمه على أن يقضي حياته في هذا القفس الضيق الذي يقال له “الدنيا” ويبذل كل نشاطه فيها ولا يسمح له أن يفكر في ما يعيش في خارجه من حقائق وما يوجد وراءه من أجواء وآفاق.
إن هذا الطريق يظلم مستقبل الإنسان ويتركه في حيرة وضلال، إنه يعمل ويكافح وهو لا يدري لِمَ هذا العمل وفيمَ هذا الكفاح؟ أكل هذا العمل والكفاح في سبيل “الفناء” أكل هذه التضحيات الجبارة والجهود المضنية الطويلة في سبيل “حياة” قصيرة الأمد طويلة الحزن قليلة السعادة كثيرة الشقاء! أكل هذا الطموح في سبيل نهاية مردية أليمة لا شيء بعدها.
إن هذا الطريق يحدد إمكانيات الفرد ويضيق جوه ويكبت مطامحه ونفسه الأبية الأنفة الطامحة التي لا ترضى بالذل ولا تقنع بالزهيد للأبد، ويقتل مطامحه وصلاحيته قبل أن يستعملها ويصل بها إلى درجة لا تصل إليها الملائكة، إنه لا يعطيه مجالاً أفسح ولا غاية أسمى، ويسد عليه أبواب الكمال في هذه الحياة الدنيا كما يسد عليه أبواب السعادة في الحياة الآخرة.
وموجز القول: إنه لا يستجيب لهذا النداء الذي لا يزال ينبعث من أغوار الضمير الإنساني نداء نفسه الطامحة الراغبة في كل شيء ولا يطلق سراحه لينطلق في الأجواء الفسيحة ويركض في طريقه إلى الخلود والأبد ويحرم على نفسه الموت والفناء.
أما الطريق الثاني وهو الطريق الذي اختاره الله للناس وهو يقول: إن الإنسان يستطيع – إذا صحت علاقته مع ربه وكان كل طموحه ونشاطه لنيل رضاه – أن يصل إلى مدارج من الكمال لا يتصور فوقها في هذه الحياة ويحظى بحياة أبدية ونعيم خالد في الحياة الآخرة، إن هذا الطريق يترك الإنسان في حقل لا حدّ له ولا نهاية، ويربطه مع حياة تخطت الحدود المادية ودخلت في اللانهائية.
إنه لا يترك الإنسان حائراً في أمره لا يدري لمن كل هذا الكفاح، ولا يدعه يكافح في سبيل فناء سريع أو نهاية أليمة أو في سبيل حياة قلت أفراحها وكثرت أحزانها، الإنسان هنا يعلم لماذا يكون هذا الكفاح والجهاد ولمن كل هذا النشاط الحيوي الدافق ولأي يوم يبذل نفسه وماله بلا تردد ولا حساب “يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ” [الانشقاق:6].
الكمال والرقي في هذا الطريق غير محدود كما أن السعادة فيه خالدة وغير محدودة فلا محل لليأس ولا مكان للكبت ولا حاجة إلى التشاؤم، إن الإنسان إذا عرف هذا الطريق وانطلق في هذا الميدان الفسيح فهو يطلع على حقائق غريبة هامة ودنيا جديدة لا تشبه هذه الدنيا في شيء، دنيا كلها نور وصفاء “أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ” [يونس:62].
ذلك في هذه الحياة.
أما في الآخرة فيكون نصيبه منها حياة خالدة ونعمة باقية يصفها القرآن بقوله “وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ” [فصلت:31–32].
إن الإنسان لا يحب أن يموت ولا يحب أن يفنى ولا ينبغي له ذلك، وإنه من المآسى الكبرى في التاريخ الإنساني أن نقضي على جميع إمكانياته للسعادة والرقي والكمال والخلود، ونقيده في حقل مادي محدود ويرتع فيه خمسين أو ستين سنة ثم يموت وهو لا يدري من هو؟ وما هذا العالم؟ ولماذا بعث فيه؟
إن الطريق الآخر يرفع الإنسان من هذا المستنقع المادي إلى رحاب روحية أفسح ولا ينقذه فحسب بل يفتح عليه دنيا جديدة، الدنيا الخالدة التي حلم بها الإنسان في كل زمان ومكان ويفتح عليه باب النعمة الإلهية، نعمة الرضي والتقرب إلى الله، وهي نعمة ما بعدها نعمة وسعادة ليس فوقها سعادة.
إن هذا الطريق يفتح أمام الإنسان إمكانيات عظيمة غير محدودة لحياته ومستقبله ويقدم حقولاً واسعة فسيحة لجولاته ونشاطه ومطامحه ليرى من يسبق في هذا الميدان ويحرز قصب السبق هو “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً” [الملك:2]، “وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ” [آل عمران:133] بخلاف الطريق الأول الذي يحصر الإنسان في جدران ضيقة من هذه الأرض، إنه يطمح في الكثير ويحلم بالكثير ولا يستطيع أن يناله، إنه اختار لنفسه طريقاً يفضي إلى الفناء والزوال وينتهي مع نهاية هذا العالم وهذه الحياة، فلا يحق له أن يرجو بعد ذلك شيئاً.
هذا هو الطريق أمام الإنسان ليعلم إلى أي مدى جنى على نفسه وأهانها وحط من شرفها وكرامتها، وكم أساء استغلال صلاحيته المدهشة ومواهبه العظيمة التي كانت تستطيع أن تكتب اسمه في سجل الخالدين إذا وجدت محلها الصحيح أو نالت حقلاً أفسح ومجالاً أوسع.
هذا هو الطريق ورسالته إلى الجماهير الإنسانية المنبثة في الكرة الأرضية كلها لتصحو وتفيق وتعلم مدى هذه الخسارة التي منيت بها الإنسانية ولا تزال باختيار هذا الطريق المحدود للإنسان الخالد غير المحدود “وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” [النحل:118] ( البعث الإسلامي، نوفمبر 1957م)