الحاجة إلى الأطباء الناصحين

الإسلام دين الإنسانية والعدل
27 أكتوبر, 2022
الإنسان الطموح بين اليأس والرجاء
26 نوفمبر, 2022

الحاجة إلى الأطباء الناصحين

العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي

إن البشرية، أيها السادة! ما زالت ولا تزال هدفاً لعوامل التدمير والإفساد، منها عوامل داخلية باطنية، من الشهوانية، والأنانية، وعبادة النفس، وحب اللذات، ومن قصور النظر ومن الانصراف إلى الدنيا، والخضوع للمادة والقوة، ولعوامل الشذوذ والانحراف، ومنها عوامل خارجية، من فساد البيئة والمجتمع، وسوء التعليم والتربية، وانحراف القوانين والنظم. والإنسان يعيش في الواقع، لا يعيش في الأحلام والأماني، ولا يعيش في الفلسفات والتصورات، يسعى على قدميه، ويتنفس في الهواء، فإن كان الهواء فاسداً تنفس الفاسد، وإن كان الهواء عفناً تنفس العفونة، وإن كان الهواء صالحاً نقياً، تنفس النقي الصالح، فلا يستغرب أن ينتشر الفساد الخلقي والفساد الاجتماعي، انتشاراً عاماً إذا توفرت أسباب قاهرة لإفساد مجتمع خاص، هذا وقع آلافاً من المرات، وسيقع مراراً إذا كان في الوقت متسع وللدنيا أجل ممدود.

ولكن المعول على وجود طبائع صالحة، وضمائر حية، وعقول نيرة، وعقائد راسخة، ودعوات قوية، مؤثرة، والعمدة على خلفاء الأنبياء عليهم السلام، وعلى حملة الرسالة ومشاعل النور، ليس من الغريب أن يمرض الإنسان، وليس شيئاً مروعاً مؤيساً، الغريب المروع المفزع هو فقدان الطبيب، وهو الذي حذرت منه الديانات السماوية، وحذر منه الأنبياء ـ وسيد الرسل صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بصفة خاصة ـ وهو أن يفقد الأطباء، ويفقد التألم النفسي بالفساد، ويفقد من يواجهه وجهاً لوجه، ويقف في تياره كالسد المنيع والطود الشامخ الذي لا يتزلزل، ينتشر الفساد ولا يجد مقاومة، ينتشر الفساد ولا يجد تحدياً، ينتشر الفساد ولا يجد منكراً أو مستنكراً، هذا  هو البلاء،  هذا الذي عرض الركب البشري للنار والدمار، والانتحار والانهيار، وساد الفساد على المجتمع الإنساني كله، وهو الذي يصوره بقوله المعجز البليغ:)ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ([الروم:41].

فالشيء المثير للتأمل والقلق، هو عدم وجود الأطباء الناصحين، المتألمين المستنكرين لهذه الأوضاع الفاسدة، الذين لا يطيب لهم طعام ولا شراب ولا نوم في هذا الوضع، ويتعكر عليهم صفو الحياة، فالشيء الأساسي الرئيسي هو وجود أولى بقية، عندهم أثارة من شعور، وبقية من غيرة إنسانية، ومن حياة الضمير، ومن الوعي الصحيح الديني، بقية من التألم والاهتمام بمصير الإنسانية، أو الاهتمام على الأقل بمصير المجتمع الذي يعيشون فيه، وهؤلاء أولو بقية مازالوا في كل فترة حالكة، يبرز وجههم في فساد المجتمع  ويقومون، يتحدون الفساد ويصرخون به، ويخاطرون بمستقبلهم في سبيل الدعوة والإصلاح، كما يقول القرآن عن سيدنا صالح عليه السلام 🙂 قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ([الهود:62] فكثير من المرجوين الذين كان لهم الغد المضمون والمستقبل المشرق، كانوا يخاطرون بمستقبلهم وبإمكانياتهم، ويجازفون بحياتهم ويخاطرون بأهلهم، ويتحدون الباطل ويقفون في وجه الفساد، ويقولون: لا نرضى بهذا الوضع أبداً، قد كان هؤلاء أولى بقية في بعض الأحيان أفراداً يعدون على الأصابع، وقد كان هؤلاء جماعة أو أمة في الزمن الذي عمّ فيه الفساد وتفاقم الشر بحيث خرج إصلاح الحال من دائرة إمكان أفراد، مهما أوتوا من المواهب، ومهما أوتوا من الذكاء، ومن النفوذ على النفوس، وامتلاك ناصية البيان واللسان، فقد كان الفساد أوسع وأعظم من أن يقف في وجهه أفراد أفذاذ من الناس، هنالك أرادت مشيئة الله تعالى أن تنهض أمة.

وهذه قصة القرن السادس المسيحي الزمن الذي سبق الإسلام، كان الفساد أوسع من أن يقوم له أفراد، ولو كانوا عماليق في الفكر، عماليق في قوة الإرادة، وفي الشجاعة وفي الإخلاص، ولكن لم يكن هذا يدخل في نطاقهم، هناك أراد الله أن تقوم أمة، ولذلك قرن الله سبحانه وتعالى بعثة آخر الرسل، وسيدهم وخاتمهم ببعثة أمة بأسرها، كانت بعثته صلى الله عليه وآله وسلم بعثة فردية تتجلى في شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو النبي الذي ختم به الله تبارك وتعالى الرسالات والنبوات، فلا نبي بعده، قرن  هذه البعثة ببعثة أمة، لأن المهمة ضخمة جداً، وهي الأمة الإسلامية، والقرآن استخدم تعبيراً يدل على أن هذه الأمة التي رافقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزواته، وفي دعوته، وفي سلوكه، وفي حمل رسالته، هذه الأمة لم تكن أمة من الصدف، ولا كالحشائش الطفيلية التي تنبت في الحقول غير مقصودة، إنما هو نبت إلهي، نبت رباني مقصود، أراد الله أن تقوم هذه الأمة بأسرها كحاملة الرسالة، فاستخدم لها القرآن تعبيراً يختلف عن تعبير الأمم السابقة ، قال: )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ( [ آل عمران:110].

هذا الشعور الذي كان يحمله الصحابة رضي الله عنهم حتى الذين لم يكونوا على مستوى رفيع جداً من الثقافة والتربية النبوية، كأن هذا الشعور قد انتشر في أفراد هذه الأمة على اختلاف مستوياتهم.

لما كان الفساد مخيماً على العالم الإنساني كله في القرن السادس المسيحي، وكان الظلام حالكاً قاتلاً ليس قاتماً، قاتلاً للضمائر، قاتلاً للنفوس، مهما بلغوا من قوة الإرادة، ومهما بلغوا من الذكاء، وامتلاك الوسائل والأسباب، هنالك بعث الله أمة بأسرها لتحارب هذا الفساد المنتشر حول هذه الأمة وحول هذه الجزيرة.

ولكن كيف كان ذلك؟ إنما كان ذلك بصفات امتاز بها أفراد هذه الأمة في الأمم، منها قوة الإيمان وعمقه في نفوسهم وتغلغله في أحشائهم، وكتب السيرة والتاريخ طافحة بأمثلته، فقد كان مدى إيمان الصحابة بمواعيد الله تعالى، وبمواعيد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فوق ما يتصوره الإنسان، ثم حسن الخلق واستقامة السيرة، ثم بساطة المعيشة والتقشف في الحياة والبعد من البذخ والترف الذين ابتلعا الأمة الرومانية، والأمة الفارسية ونخرتهما كما ينخر السوس العود، الترف المدمر، الفاتك بالكفايات، والفاتك بالطبيعة البشرية.

والذي أخشاه على الأمة العربية، والذي أخشاه على المجتمع العربي الإسلامي الكريم، هو أن تكون مثالاً أو تكون نموذجاً لتلك المدنية المصطنعة، المدنية التي حادت به عن كل مكرمة وعن كل بطولة.

×