الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي وكتبه حول السيرة النبوية

مربي الجيل المعاصر
10 سبتمبر, 2023
عرض يسير لإسهامات سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي في الأدب العربي
10 سبتمبر, 2023

الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي وكتبه حول السيرة النبوية

عبد الودود الندوي

من فضل الله على الأمة المحمدية أنه قد قيّض لتدوين سيرة نبيها وترتيبها رجالا قد تشربت قلوبهم بمحبة نبي الله صلى الله عليه وسلم، إنهم بذلوا كل ما في وسعهم من المهج والأنفس والممتلكات في جمعها، فأتوا من ذلك بشيء كبير من جوانب حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأول من تصدى لهذا العمل الجليل هو عروة بن الزبير بن العوام، إنه كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم المسماة بالمغازي – هذا المسمى كان سائرًا في القرن الأول والثاني للسيرة النبوية – وكان من معاصريه أبان بن ذي النورين عثمان بن عفان، وشرحبيل بن سعد أحد موالي الأنصار ووهب بن منبه، وهناك غير هؤلاء الأربعة عدد لابأس به من علماء الإسلام، حملة السنة النبوية، وأمناء الشريعة الأتقياء الصادقين الذين لبثوا حقبة من الزمن في هذا الفن جليل الشأن عظيم البرهان.

إن أقدم أثر وجدناه بين أظهرنا من آثار مدوني السيرة النبوية كتاب عظيم صنفه مؤلفه الأول محمد بن اسحاق بن يسار في أول عهد الخلفاء العباسيين، رتبه باسم “المبتدا والمبعث والمغازي” أبقاه لها مرتبه الثاني الشيخ أبو محمد عبد الملك ابن هشام المعافري (المتوفى 213).

فإن هذه السلسة الذهبية لم تنقطع ولم تتوقف منذ أول يومها إلى يومنا هذا حتى قام علماء شبه القارة الهندية فلم يتخفلوا في هذا المضمار، بل قدموا تضحيات جبارة لنقل ما في العربية من مواد السيرة إلى الأردية والفارسة والهندية، فإن بعض المؤلفين في الهند فاق أقرانه وأعيا من يأتي بعده كالعلامة شبلى النعماني وتلميذه العلامة السيد سليمان الندوي وسماحة العلامة الشيخ السيد أبي الحسن على الحسني الندوي.

وينخرط في هذه السلسة الذهبية سماحة العلامة الشيخ محمد الرابع الحسني الندويى – رحمه الله – هو صاحب ذكاء وإجادة وعلم وإفادة، في العلوم الشرعية آية، وفي فن آداب اللغة العربية غاية، هو أديب نحرير وكاتب قدير، إنه قدم مجهوداته وإنجازاته في السيرة النبوية، ونالت أعماله فيها قبولا حسنا في الأوساط العلمية في شبه القارة الهندية.

قبل أن أخوض في بيان منهج كتابته للسيرة النبوية وأسلوبه الذي خرط فيه درراً ثمينة أرى من المناسب استلفات الأنظار إلى أنه حظي بنصيب وافر من ميراث شيخه الجليل العلامة السيد أبي الحسن على الحسني الندوي العلمي والروحي، الذي برز اسمه على المستوى العالمي كرمز للفكر الإسلامي الثاقب والضمير الدعوي الدافق في القرن المنصرم، تميزت شخصيته بالوسطية والوئام والوفاق بين الجمعيات والهيئات الإسلامية، كما حازت العلمَ الغزير والفكر المستقيم، والأدب البناء السليم، وكانت له اسهامات فائقة في إعداد المواد الغزيرة من الكتب القيمة التي تزود الأجيال القادمة بمناهج الحياة القويمة كي لاتزيغ قلوبهم وأذهانهم من طريق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ورث سماحتنا العلامة من شيخه هذه الأفكار القويمة والوجهات النبيلة فنستطيع أن نقول إنه انسجم مع شيخه في فكره ونهجه في الدعوة والإرشاد، وما ألفه من كتاب قيم على حياته وخدماته باسم “الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي: شخصية صنعت التاريخ” لهو خير شاهد على ما أقول.

فانخرط الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي في سلك كتّاب السيرة النبوية، وألف عدة كتب فيها بالعربية والأردية باسلوب رصين يبهر الألباب، وفكر ثاقب ينير الأذهان، أهمها كتاب “سراجا منيراً سيرة خاتم النبيين”، ألفه في آخر عمره باللغة الأردية بأسلوب سهل وفي قالب علمي وأدبي، ونقله إلى العربية البليغة مساعده العلمي الأستاذ محمد وثيق الندوي بجدارة ولباقة. يقول الأستاذ جعفر مسعود الندوي عن أهمية الكتاب: “نال قبولاً واسعاً في الأوساط العلمية والدينية في شبه القارة الهندية، ثم نقل هذا الكتاب إلى اللغة الهندية، لغة الهند الرسمية، ليقف الناطقون بها، ويبلغ عددهم أكثر من مليار، على سيرة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وقوبل بترحيب حار لأسلوب مؤلفه السهل العذب المقنع، وإبرازه لجوانب إنسانية وخلقية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وعرضه الرسول الأعظم كمنقذ للإنسانية التائهة في متاهات الضلالة والغواية”. (سراجا منيرا، ص:3) فطبع له أكثر من ثماني طبعات، ثم نقل هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية والهندية ولقي عندهم حفاوة عظيمة، وقد قام فضيلة الأستاذ محمد وثيق الندوي – الذي لازم سماحة المؤلف وخدمه لله تعالى زمنا طويلا حوالى أكثر من عشرين سنة – بمهمة نقله إلى العربية رجاء لتوسيع نطاقه ولنشر أريجه وشذاه فيما بين الناطقين بالعربية.

وإن دل الكتاب على شيء فإنما يدل على رقة طبع المؤلف وسيلان ذهنه وبراعة استدلاله، فإن الكتاب يشتمل على عشرة أبواب، لكن القاري قبل أن يخوض فيها ليأخذ اللآلي الثمينة من السيرة النبوية يجد في بدايتها مقدمة علمية قيمة عن السيرة النبوية ومراحل تدوينها وأهم المصنفات فيها، وذكرِ أولئك الأفذاذ الذين آثروا تقديم سيرة نبيهم إلى أمته على كل شيء من حياتهم من بداية القرن الأول إلى نهاية القرن المنصرم، وتدل المقدمة على سعة اطلاع المؤلف وقوة ملكته وطول باعه.

ثم قدم في الباب الأول باقة رائعة عن شخصية أول إنسان على هذه الخريطة الكروية أبي البشر آدم عليه السلام، فذكر تكريم الله تعالى إياه بأمر الملائكة بالسجود له، كما ذكر هبوطه وهبوط زوجته إلى الأرض، ثم قدم نبذة عن الأمم السابقة التي أرسل إليها الرسل كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم مدين، هذا ما يمنح لب القاري جمالاً في بيان مع عذوبة لسان، ليكون على علم عن الأمم وأنبيائها ورسلها حتى يستعد بكل رغبة وهيام لمعرفة سيرة سيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم.

أما الباب الثالث فهو من أهم أبواب الكتاب، ألقى المؤلف الضوء على أحوال العالم في القرن السادس المسيحي سياسياً وثقافياً وخلقياً، وعلى أوضاع الدول المختلفة من الدولة الرومانية والدولة الإيرانية والدول الأوربية، فيدرك القارئ بكل سهولة أن الإنسانية كانت بأشد حاجة إلى بعثة نبي أعظم ينتشلها من الباطل الظلم والطغيان والفساد والعدوان والضلالة إلى الحق والأمن والسلام، والصلاح والرشاد، ينبهر القاري من سعة اطلاع سماحة المؤلف وحسن سبكه وجميل صياغته، يقول عما ساد في ذلك القرن من الفساد المهلك والدمار شامل: “قد كانت الإنسانية في عصر البعثة في طريق الانتحار، وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده، وقوة التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح……. وربما كان إقليم واسع ليس فيه أحد يهمُّه دينه، ويعبد ربَّه، لايشرك به شيئا، ويتألم للإنسانية ومصيرها البائس…… فبعث الله النبي الأخير خاتم رسله ليقوم بمعالجة تلك الأوضاع الفاسدة وإصلاح الأحوال الاجتماعية والدينية المنحطة، وإنقاذ البشرية المحتضرة من الهلاك والدمار، وأعطاه الكتاب السماوي الخالد “القرآن” ليصبح هاديا جامعاً للإنسان إلى يوم القيامة” (ص: 85، 86).

وقدم سماحة المؤلف في الباب الرابع إلى الباب الثامن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من ولادته إلى وفاته، ونزل بالقارئ في حدائق ذات بهجة من نصوص مشرقة من كتب السيرة النبوية الأساسية، فلم يترك ما في حياته من جانب التربية والتعليم والإصلاح والتهذيب والتثقيف من أخلاقه النبيلة وشمائله العطرة، وخصاله السامية وصفاته العالية، ودعوته إلى الله ومنهجه فيها، وصبره على الأذى وتحمله المشاق، ومعاناته من اعتداء الكفار والمشركين، وسلوكه في الحرب والسلم، وإصلاحه ذات البين، وإنشائه نظاماً اجتماعياً مثالياً قويماً في المدينة المنورة وغير ذلك من جوانبها إلا ذكره بصورة حية صادقة مشرقة تهزّ عواطف القاري وتستجذبه إلى الانخراط فيها، والاصطباغ بصبغتها، يجد القاري أمام عينيه حياة النبي صلى الله عليه وسلم متمثلة من الطفولة إلى أوج القيادة وقمة الكمال، يمتاز سماحة المؤلف في ذلك كله بوصفه أخلاقَ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وتعليمه الآخرين ومجلسه بين أصحابه، هذا ما لايشاركه فيه إلا قليل من الآخرين.

أما الباب العاشر فزينه بذكر أولئك الرجال الذين طلعوا كالنجوم في الآفاق، وانتشروا برسالة حبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم في أرض الله الواحد القهار كالدم في جسد الإنسان، وضحوا له بكل نفيس وغال، والذين نسوا لهذا النبي المختار أنفسهم، وقدموا أمثلة رائعة لصلاح الدين والدنيا أمام البشرية كلها، كأن سماحة المؤلف يقول للقارئ: كن كأبي بكر في إيمانه، وعمر في شجاعته وعثمان في حيائه وعلي في قضائه، وخذ من سلمان ومعاذ وأبي ذر إيمانهم، وخذ من أبي عبيده وعمرو بن العاص وخالدبن الوليد همتهم. وضَعْ نصب عينيك قصة بلال وصهيب وعمار وصبرهم، حتى تكون من هذا الطراز الأول من أهل الإسلام السابقين.

وللمؤلف كتاب آخر في السيرة النبوية باسم “في ظلال السيرة”، يحتوى على قمسين: فجمع في القسم الأول البحوث والمقالات عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، دبجها يراعه عند حلول شهر ربيع الأول كل عام للافتتاحيات في صحيفة الرائد، كما يشتمل قسمه الثاني على ما كتبه من كلمات وبحوث للندوات والملتقيات المنعقدة حول موضوع السيرة النبوية في مختلف البلدان، وركز فيها على جوانب حياة النبي صلى الله عليه وسلم الإنسانية والخلقية وسماته البارزة المشرقة ومعاملاته الحسنة وعفوه المثالي وصفحه وحلمه وأناته، إذا طالع القارئ هذه المقالات تدفق خاطره بما فيها من الأخبار العاطرة والأحاديث الطيبة وجاش فؤاده بما فيها من الحب والوداد والهيام، ونسيت نفسه همومها، لأنه الرمز للخصال الحميدة وذروة سنام للخلال الجميلة، فجزى الله صاحب الكتاب الذي يقول عما أعد المجتمع الإنساني المثالي بأخلاقه وشمائله: “لقد بذل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم سعيه المخلص النبيل نحوا من ربع قرن حتى استطاع أن يبني مجتمعا من أخاير الناس وأحلاسنهم سيرة وعقيدة ونظرًا إلى الحياة، أصبح بعده هذا المجتمع الإنساني الفاضل حاملاً للصلاح والهداية، وأصبح أفراده دعاة لفضائل الإنسانية، وبذلك أعاد الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم الإنسانية إلى مكانتها من الشرف والكرامة وإلى السلامة والأمن، وإلى الصفاء والطهر، وإلى الجمال والكمال، في السيرة والسلوك والأخلاق” (في ظلال السيرة:78)

بهذا الأسلوب السهل الذي يموج بالألفاظ الرشيقة والمعاني الغزيرة وضع المؤلف أمام القارئ صورة خلابة من أخلاق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الحميدة تجذب إليها القلوب وتنفخ فيها روح الامتثال بها.

وأفرد الشيخ رسالة قيمة بالأردية باسم “رحمة للعالمين: صفاته وشمائله وخصاله” تشتمل على شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصاله الحميدة وعدله فيما بين الناس، وشفقته على الأمة حتى على الحيوانات ومعاملته مع الأعداء، تحتوى على أربعين صفحة، وهي عصارة من الكتب الطوال، كأنه جمع البحر في قدح.

وأعد عجالة نافعة باسم “السيرة المحمدية نموذج للإنسانية” بالأردية أيضا، جمع فيها نواحي حياة النبي صلى الله عليه وسلم التي تجعله أسوة كاملة للإنسانية كلها ليس للمؤمنين به فقط، ركز فيها على حياته التي قضاها في مكة بعسر وأذى لكنه قضاها بصبر وحلم وأناة حتى لم ينتقم من أحد لنفسه، بل عامل مع الأعداء الذين كانوا يؤذونه صباح مساء معاملة حسنة، وعفا عنهم وصفح.

وله كتاب قيم في السيرة النبوية بالأردية باسم “نقوش سيرت”، (ملامح السيرة) هذا الكتاب يشتمل على البحوث المقالات التي أعدها للمؤتمرات والندوات المنعقدة على موضوع السيرة النبوية في أرجاء الهند، قدمه فضيلة الأستاذ محمد رضوان القاسمي بكلمات قيمة تفيض بالمعاني الغزيرة يقول عما رسمه النبي صلى الله عليه وسلم في المجتمع الإنساني: “قد انمحت كل ما كان في العالم من طرائق الإصلاح والإرشاد السماوية ولم يبق شيئ منها إلا إسمها، ولكن ما رقشه النبي الأخير محمد صلى الله عليه وسلم من الرسوم الأبدية لم ينمحي شيئ منها بل لاتزال حية وضاءة أبد الدهر، فمن الحقيقة الناصعة أنه ليس هناك للمسائل الإنسانية حل إلا في الرسالة النبوية. (نقوش سيرت، ص:8).

يشتمل الكتاب على خمس وعشرين مقالة في مختلف الموضوعات التي تحوي في طياتها جوانب السيرة النبوية المنوطة بتربية أفراد المجتمع الإنساني خلقا وعادة، من أهم موضوعاته: و”حياة النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماعية” و”منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة، والحراكات المعاصرة” و”دور الحديث الشريف في تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق”.

فبالجملة يزود الكتاب قارئه بكل ما يحتاج إليه من ترشيد وتوجيه في حقل الدعوة في العصر المتحضر.

هذه عصارة ما قدمه سماحة المؤلف من انجازاته القيمة ومآثره النيرة في إبراز ملامح السيرة النبوية بالعربية والأردية في الأوساط العليمة والمجتمعات المثقفة.

فجزاه الله أحسن ما يجزيه عباده الصالحين.

×