مربي الجيل المعاصر

دراسة كتاب” العالم الإسلامي اليوم: قضايا وحلول” لفضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي
10 سبتمبر, 2023
الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي وكتبه حول السيرة النبوية
10 سبتمبر, 2023

مربي الجيل المعاصر

محمد خالد الباندوي الندوي

لقد كان الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي شخصية متعددة الجوانب، فكان داعية إسلاميا من الطراز الأصيل، ومفكرا عظيما صادقا، وقائدا بعيد الغور، ومصلحا حكيما، وأديبا واسع الاطلاع، وكاتبا بارعا ذا قلم سيال، وأسلوب سهل سائغ، أجراه الله الحق على لسانه وقلمه، وشرح لنور الحق صدره، فكان لا يتكلم إلا بالحق، ولا يكتب إلا للدفاع عن الحق، ولا يفكر إلا فيما يعزز الحق ويعزره، وكان مدرسا ذا بصيرة ثاقبة تكشف المواهب فيصقلها صاحبها بتربيته الحكيمة، ويزودها بالأصول والثوابت الإسلامية، وكان عالما ربانيا وخبيرا تربويا تخرج عليه الأجيال التي تقف اليوم كالجبال الراسيات في وجه التيارات الغربية الملحدة، وكان مؤلفا حكيما تذود كتبه القيمة عن الدين الإسلامي وترشد الأمة إلى المواقف السليمة في مختلف شعب الحياة وتربط صلتها بالدين الآفاقي.

وهذه الجوانب كلها تقتضي إلى أبحاث طويلة ووقفات متأنية للتعرف على ما تحمل شخصيته من المقام المرموق في الأوساط العلمية والأدبية والدعوية. ولا يسع المجال هنا للخوض في تلك الجوانب المتعددة وإنما نقصد في هذا المقال أن نلقى بعض الأضواء الكاشفة على آرائه ونظرياته السديدة حول موضوع “التربية وإنشاء المجتمع المثالي” مع التعرف على منهج تربيته وكتابته وأسلوبه الجميل الذى جعل كتبه وردا مورودا، ومنهلا عذبا سائغا لجميع الطبقات والفئآت من الأمة الإسلامية، وذلك في ضوء كتابه ” مقالات في التربية والمجتمع” لكي نستنير من آرائه الحكيمة ونتبع خطواته الصائبة في تربية الجيل المسلم المعاصر وإقامة المجتمع الاسلامى على أسس إسلامية ثابتة.

إن هذا الكتاب في الواقع مجموعة مقالات ألقاها الشيخ الندوي أمام الطلبة في المعهد العالي للدعوة والفكر الإسلامي لدار العلوم لندوة العلماء، وقد كان يسيطر على المؤلف –عند تأليف هذه المقالات– فكرة تربية الطلبة تربية علمية ودعوية ليكونوا على بصيرة من مناهج التربية في مختلف أنحاء العالم وما لها من تأثير في العقول والأفكار، ويقوموا بعد تخرجهم بعمل الدعوة على بصيرة وهدى، ويطلعوا على أساليب الدعوة وأوضاع المسلمين ومناهج التربية الإسلامية والمناهج الغربية التي تأثرت بالفلسفات المعاصرة والحركات الالحادية والمادية مع الاطلاع على خلفياتها العلمية والثقافية.

وإن هذا الكتاب يشتمل على 28 محاضرة، استكمل بها أطراف الموضوع الى حد، ومن أهم العناوين التي خاض فيها المؤلف وتحدث عنها هي: المجتمع البشرى وعملية التعليم، والطبيعة البشرية الاجتماعية، ومعتقدات المجتمع ومقوماتها، وآثار الدين والقومية، ومكانة الأسرة وقيمتها في المجتمع، النظريات التعلمية السائدة، والمناهج والمقررات الدراسية، صلة التعليم بالجوانب البشرية المختلفة، والمساجد والمعابد، والتعبيروآثاره والأدب ونشره.

وكل من درس كتابه عرف أن للمؤلف فكرة هامة تتجسد من خلالها نقطة حساسة ومهمة، ألا وهي مسألة التربية، وقد عرف أن مفهوم التربية عند الشيخ الندوي لم يكن عبارة عن نظرية تربوية للفرد مع انقطاعه عن المحيط والمجتمع بل إن التربية عنده عبارة عن تربية الفرد في السلوك الذي يعد انعكاساً لتربية وتهذيب النفس والفكر وبما لهذا السلوك الفردي من علاقة وأثر في إقامة المجتمع الاسلامى المثالي. يقول الشيخ الندوي عن صلة الإنسان بمحيطه ومجتمعه:

“المجتمع ضرورة طبيعية لا محيص عنها، فإن الإنسان لا يقدر على أن يعيش وحده بمعزل عن بني جلدته حياة هنيئة سعيدة، انه يحتاج لكي يدفع عجلة الحياة بسهولة ويسر إلى مساعدة الآخرين وتعاونهم”.

يمتاز الكتاب ” مقالات في التربية والمجتمع” بآراء المؤلف السديدة ونظرياته القائمة على الوسطية المتزنة بالسماحة وسعة النظر ومراعاة مقتضيات الحياة المعاصرة وهنا نقدم لك بعض آرائه الحكيمة وتوجيهاته السديدة المبنية على الاعتدال والوسطية “حول موضوع التربية والمجتمع”

يرى الشيخ الندوي أن القرآن الكريم هو أكبر مصدر وأعمه وأشمله في موضوع التربية المثالية، لا بديل عنه لإقامة مجتمع على الفطرة المستقيمة، وذلك لأنه يحض الإنسان على حصول العلم وينوه بشأنه، يقول:

” لا يملك المسلمون كتابا أشد تأثيرا وقيمة وأشمل لمواد الأخلاق والكرامة الإنسانية والمعارف الدينية والروحية من القرآن، فقد أشاد القرآن الكريم بالعلم ونوه بشأنه في غير موضع”.

(مقالات في التربية والمجتمع: 15)

يرى الشيخ الندوي أن العلم ضرورة حتمية في إنشاء الجيل المثقف وتربية السلوك الإنساني وتهذيب العقول والأفكار كما يرى أن العلم جنس يندرج تحته جميع المعارف المتواجدة التي تفيد الإنسانية في التعايش السلمي الآمن أو يعتبر من ضرورات الحياة ودعائمها، وإن مصطلح “العلم ” لا ينقسم عنده إلا إلى نافع وغير نافع، فيؤكد على ضرورة اكتساب العلم الشرعي والمعارف العصرية بأسلوب دعوي مستميل للقلوب دون المجادلة الجافة يقول:

“ولابد هنا من ملاحظة وهي أن كلمة العلم كلمة أطلقت للجانب العلمي الذي يقتضيه السياق فالفلاح حينما يستعمل كملة المعارف لا يقصد بها إلا المعارف الزراعية، وكلمة العلم عندما تستعمل في الحديث الإسلامي الديني تدل على علوم القرآن والسنة وما يستخرج منهما، لكن لا يعني ذلك أننا نريد أن نحصر العلم في نطاق محدود أودائرة ضيقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أباح الاستفادة من الشعب الأخرى للعلم مما يتصل بالحياة البشرية المتنوعة أو يعتبر من ضروراتها ودعائمها، وروي أنه نهى أصحابه عن تأبير النخلة فلما تبين له أنهم على الصواب قال لهم: أنتم أعلم بأمور دنياكم، وبناءا على ذلك يمكننا أن نرى إلى أمور الدنيا، فهذا المصطلح يشمل جميع العلوم الدنيوية، وقد أبيح لنا أن نستفيد على أساسها من التجارب والخبرات البشرية المختلفة ونستخدمها لصالح البشرية”.

(مقالات في التربية والمجتمع:16)

ومن أعظم الأمثلة لوسطيته واعتداله في عرض الآراء والأفكار، واتخاذه موقفا عادلا بعيدا عن المغالاة والتطرف أنه إذا أخذ في ذكر الوسائل والأسباب التي تحمل تأثيرا عميقا في تربية العقول الأفكار وتعلب دورا وقيمة في تعبئة الرأئ العام بسط في الموضوع واعتبر الصحافة العربية بجميع أشكالها وصورها أداة فعالة لها قيمة كبيرة في نفوس القراء، كما ذكر الوسائل الإعلاميةالأخرى مثل الوسائل السمعية والبصرية فاعترف بما لكل– من اللاصقات والللافتات والإذاعة والبرامج الثقافية والمسرحيات والسنيما والأفلام والتلفزيون والفيديو والتسجيل–من تأثير على القلوب والوجدان، فإنه لم يعتبر –حين ذكر هذه الوسائل المؤثرة– شجرة ممنوعة لا يجوز التقرب إليها، بل نظر إليها كعوامل وأدوات فعالة بريئة أسيئ استخدامها، ويمكن للإنسان أن يستخدمها لصالح الإنسانية. يقول الشيخ:

“ويمكن أن تستخدم الأفلام السينمائية للأهداف الصالحة إن فرضت عليها رقابة لائقة، كتعليم الأمور اللازمة الضرورية، يستطيع المقيمون في البلد أن يطلعوا عن طريقها على أحوال الصحارى المخيفة المروعة ومنورة الأعداء وتحركاتهم والمعارف العلمية والجغرافية التي يصعب علينا إدراكها، ولكن استعمال الأفلام لهذه الأغراض النافعة لا يكسب لأصحابها ثروة ولا مالاً لأنها موضوعات خشيبة لا لذة فيها ولا متعة فلا يرغب الناس فيها، ولكن يمكن للحكومات أن تعرض هذه الموضوعات ضمن برامجها وتفرض الحظر على البرامج السينمائية التي تضر بالأخلاق والقيم”. (مقالات في التربية والمجتمع، ص: 113)

دعا الشيخ الندوي إلى تأسيس دور الإقامة الاجتماعية وأهميتها البالغة في العملية التعليمية والتربوية وذلك اعترافا بمن سبق إلي هذه الدعوة والنظرية البناءة برحابة الصدر يقول:

“نظرًا إلى تأثير هذه الوسيلة دعا عالم مسلم وزعيم ديني كبير (الشيخ مولانا عبد الباري الندوي رحمه الله، أستاذ الفلسفة السابق في الجامعة العثمانية بحيدرآباد) إلى أن تؤسس دور الإقامة والوحدات السكنية في الأمكنة المختلفة والمدن الكبيرة لتربية المسلمين وإصلاحهم، وينظم فيها برنامج نافع ملائم يوافق طبائعهم وأوضاعهم النفسية وبما أنها توفر التسهيلات السكنية في هذا الزمان أصبحت مطلوبة فإنهم لا يشعرون بأي كلمة في صياغة نفوسهم في نظام تربوي”. (مقالات في التربية والمجتمع، ص: 119)

ويمتاز منهج المؤلف في الكتاب أنه قد أعار اهتماما كبيرا على النقد البناء الهادف والتحدث عن المزالق التي وقعت فيها الجمعيات الإسلامية والحركات الإصلاحية الدعوية فباءت جهودها –رغم كثرتها الكاثرة وضخامتها الواسعة وتضافربعضها ببعض– بالفشل، فيرى الشيخ أن نظامنا التعليمي والتربوي لا ينقصه إلا العناية المطلوبة ورعاية مقتضى الدعوة والبيئة والمجال يقول– وهو يقوم بالمقارنة بين فشل نظامنا التربوي ونجاح المدارس المسيحية:

“ولكن الاستفادة من نظام الوحدات السكنية لا تتم إلا بإعارة الاهتمام وبذل العناية والحكمة واللين، وإن فُقد الاهتمام والاعتناء فإنه لا يمكن أن ينفع نظام تربوي من المدرسة أو دار الإقامة، وإن دور الإقامة والوحدات السكنية من بلداننا الشرقية تعاني من هذا الإهمال والإغفال، ولكن النظم الغربية تستفيد منها استفادة تامة فق أفكارها وأهدافها، وتمثلها في الشرق المدارس المسيحية في بلادنا التي يلتزم فيها الطلاب بالنظم والبرامج المدرسية التزامًا دقيقًا، ويصهرون في بوتقتها انصهارًا تامًا”. (مقالات في التربية والمجتمع، ص: 120)

أما كتابه هذا فيمتاز بلغته السلسة وأسلوبه السهل المؤثر الذي يسغيه القارئ العام ويتسم أسلوبه بالوضوح والبيان والبعد عن زخرفة القول والتنميق والتحبير، وحشو الكلمات المترادفة والتعقيد اللفظي، لأنه كان يؤثر في جميع كتابته أن يسيغ القارئ فكره ودعوته، ويتأثر به بدل أن يكون مسحورا ببلاغة كلامه وسحر بيانه المموه. وأما منهج استدلاله فهو سهل الفهم ومقنع مع كونه علميا وتحقيقيا، وقد راعى فيه المؤلف –رحمه الله–عقلية الجيل المعاصر التي تميل إلى الكلام الأدبي والأسلوب الممتع الجذاب مع الإقناع العلمي بدل المناقشة الجافة الرتيبة يقول سماحة الشيخ أبو الحسن على الحسني في تقديمه على هذا الكتاب وهو يلقي الضوء على منهج المؤلف ومزايا كتابه:

“ولا يجد القارئ في هذا الكتاب بحوثا علمية رتيبة جافة بل يجد فيه الحديث الشيق الممتع عن تأثير القرآن الأدبي المعجز وقدوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسوته المباركة وتأثيرات الأدلة، وشرح طبيعة الأدب السافل ونقده………. ويجد فيها القارئ بعض الجوانب الجديدة التي لا يجدها في المصادر العربية أو الأردية أو غيرها في هذا الموضوع”…. وهكذا لم يعد هذا الكتاب كتاب منهج دراسي جاف بل أصبح كتاب علم ودعوة وفن جديرا بأن يقرأه ويتمعنه المعنيون بشؤون الدعوة المهتمون بقضايا مستقبل النشء الجديدوالجيل المثقف المعاصر، وكل من يشعر بأهمية إصلاح المجتمع المسلم.

(مقالات في التربية والمجمتع: 11)

×