محمد سلمان الندوي البجنوري

عندما سمعت خبر وفاة سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي – رحمه الله تعالى – أحسست بأن جسدي خال من الروح، وجسمي جامد في مكانه ولا يستطيع أن يتحرك، فكأن دنياي قد أظلمت واسودت رغم رونقها وبهائها وحسنها وجمالها. فهل تعرف من هذا الذي كان يفيد الناس بعلمه وعمله، إنه كان يحمل هموم الأمة الإسلامية ويتألم قلبه من الآلام والشدائد التي تواجة الأمة الإسلامية والإنسانية، وكان يكثر البكاء والتضرع والإنابة إلى الله عز وجل ويسهر الليالي للخضوع أمام رب العالمين لنجاة هذه الأمة الإسلامية في الدنيا ونجاحها في الآخرة، ويهتم بقضايا الأمة ببناء الكيان الإسلامي ويحرص على توجيه الشباب المسلمين الناشئين إلى المنهج الإلهي والعقيدة الإسلامية الصحيحة وإلى الالتزام بالعلم والمعرفة والعمل بما أمرهم به الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم وإلى العناية بالقرآن والسنة عملا بهما وإلى اختيار مجالس الصالحين من العلماء الأتقياء، ويقوم بكل ما يجب عليه وبكل ما يحتاج إليه الشباب المسلم الناهض خاصة والأمة المسلمة عامة عن طريق التعليم الإسلامي والتربية الدينية والدعوة الإلهية والإخلاص لله تعالى.

رحم الله سبحانه وتعالى شيخنا وقد عاش عمراً طويلاً وينطبق عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم “خير الناس من طال عمره وحسن عمله” – وكانت حياته حافلة بخدمات جليلة وأعمال عظيمة من القيام بدور النصح والخير والتوجيه والإرشاد والإشراف على بناء الحياة الإنسانية وإرشاد الجيل الناشيء والشباب الناهض إلى الاعتصام بالكتاب والسنة والتمسك بالعقيدة الصحيحة واستئصال البدع والخرافات والحرص على حب النبي محمد صلى الله عليه وسلم والتركيز على القدوة والأسوة فيه والارتباط بالسيرة النبوية العطرة، فلا غرو أن شيخنا قضى حياته كلها متفكرا ومحترقاً قلبه من أجل أن يكون الإنسان إنساناً في معنى الكلمة وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تكون حياة المسلم متصفة بالإيمان الحقيقي الكامل ومتمسكة بالكتاب والسنة وممتزجة بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإنه نذر حياته لخدمة الإسلام والمسلمين والنصح للأمة الإسلامية، فكان دائم الفكرة ليست له راحة، وكان مدبرا وحكيما يضع الأمور في مواضعها، وكان يصمت كثيرا إلا أن يكون الكلام نافعاً في صالح الفرد أو الجماعة، ولا يعرف العجلة والتهور.

لقد كانت حياة الراحل الكريم ذات مناح متعددة وجوانب مختلفة، فكان قدوة للعلماء والفضلاء والأمة الإسلامية جمعاء، وكان يؤمن بأن الحياة العملية النموذجية أكثر تأثيراً من الحياة الخالية من العمل، وبأن لسان الحال أبلغ من لسان القول، وكان يتناول الناس بحكمة نادرة، وكان كاتبا قديراً وأستاذا شفيقاً رحيماً بتلاميذه ولا يدخر وسعاً في العناية بهم وإرشادهم إلى ما ينفع لهم من الخير والعطاء وقد يجمعهم في جامع ندوة العلماء ويخطب أمامهم كوالدٍ خطبة جامعة بليغة مؤثرة، فيتأثرون بشخصيته الجذابة وكلماته المؤثرة، ويتفكر صباح مساء فيما يفيد الطلاب من العلم والمعرفة والتربية والثقافة، فلذا قد ألزم نفسه بالجلوس مع الطلاب في دار الضيوف وكان يرشدهم ويصلحهم وينصحهم ويتحدث إليهم برفق ومحبة، وكان كل طالب يحب أن تقرب إلى الشيخ رحمه الله ويستمع إلى كلامه ناظراً إلى وجهه النوراني، ويستفيد من كلامه وصحبته معاً، ويجلس عدد كبير من الطلاب في هذا المجلس الروحاني صامتين ساكتين كأن على رؤوسهم الطير.

و يكتب سعادة الدكتور الأستاذ الكبير الشيخ سعيد الرحمن الأعظمي الندوي حفظه الله ورعاه يذكر أستاذه الكبير رحمه الله ورئاسته وعصره الذي نالت فيه ندوة العلماء شهرة عظيمة: “نالت ندوة العلماء في حياته صيتا حسنا، وشهرة فائقة، وقد وصل صوتها إلى جميع القارات، وتوسعت دوائرها، وتشبعت، حتى ازداد عدد خريجي دار العلوم لندوة العلماء في عهده بكثرة كاثرة، وكان يركز كثيرا على تربية الطلاب ليتحلى الطلاب بالثقافة الدينية، فيجمع الطلاب أحياناً في جامع ندوة العلماء باقتراح مني كمدير لدار العلوم، ويخطب خطبا وكلمات نابعة من قرارة القلب، تؤثر تأثيرا كبيرا، وقد كان يتخول أساتذة دار العلوم ومدرسيها بالموعظة والنصح، لكي يكونوا نشطاء في إعداد الطلاب وتعليمهم وتربيتهم، ولا يتغافلوا عن وظائفهم ومسؤولياتهم، وكان عهده في رئاسة ندوة العلماء عهدا زاهرا، بدأت رئاسته لندوة العلماء بعد إمامنا العلامة الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي، وكان على طرازه، لا يأخذ من الرواتب المادية شيئاً غير أنه وقف حياته كلها لندوة العلماء وأعمالها، وكان يزهد في حطام الدنيا، وكان مثالاً للسلف الصالح، وكان يقضي حياة نموذجية بسيطة حتى جاءه الأجل المحتوم”(الافتتاحية للبعث الإسلامي العدد الخامس، المجلد ٦٩، ذو القعدة ١٤٤٤ه‍ يونيو ٢٠٢٣م).

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ