طاب حيًّا وطاب ميتاً

ولكنه بنيان قوم تهدَّما
14 مايو, 2023
كيف يتحقق لنا النصر؟
19 سبتمبر, 2023

طاب حيًّا وطاب ميتاً

جعفر مسعود الحسني الندوي

فقدت الأمة الإسلامية في الواحد والعشرين من شهر رمضان المبارك 1444هـ، رجلا من رجالها الذين تعتزُّ بهم، وتدين لهم، وتشهد لهم بما حققوه من إنجازات ومآثر في مجالات الحياة المختلفة؛ من التعليم والتربية، والدعوة والاصلاح، والتزكية، والإدارة والقيادة، والتوجيه والارشاد، والبحث والكتابة، والتصنيف والتأليف، وكان هذا الرجل الذي فقدناه أخيرًا يعرف بإيمانه الراسخ، وعقيدته الصحيحة، وعمله الصالح، كان يعرف بحبِّه الغامر للنبي صلي الله عليه وسلم، وحبِّه لأهل بيته الأطهار، وحبه لأصحابه البررة، كان يعرف بحلمه، وصبره، وتحمُّله، كان يعرف بزهده، وورعه، وتواضعه، كان يعرف بحكمته، وبصيرته وفراسته، كان يعرف برأفته وحنانه وعطفه، كان يعرف بثقته بالله، وتوكُّله عليه، وإنابته إليه، كان يعرف برقة قلبه، ولين طبعه، وحلاوة حديثه، كان يعرف بسلامة فكره، وسداد رأيه، وصحة موقفه، كان يعرف بنصحه للآخر، وإيثاره له، وتعامله معه معاملة تليق بشأنه، كان يعرف بعزيمته واستقامته وصلابته في اتخاذ القرار إذا كان الأمر يتعلق بالدين والشريعة، ومرونته إذا كان الأمر يتعلق بالفروع والآلات.

كان هذا الرجل من خيرة الرجال، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم حين سئل عن خير الناس فأجاب: “خير الناس من طال عمره وحسن عمله” (رواه الترمذي) فقد مدَّ الله في عمر هذا الرجل، وبارك له في صحته، وحفظ له سمعه وبصره، وذاكرته، ووفقه للقيام بأعمال جليلة تجلب له رحمته، وينال به حبه ورضاه، ويزداد به أجره ومثوبته، ويرتفع به شأنه ومنزلته في هذه الحياة وبعد الممات، فعاش؛ لا لنفسه ولا لعائلته ولا لأسرته، وإنما عاش لأمته مُهتَمًّا بشؤنها، معالجًا لقضاياها، مقدِّما حلولها، محاولا لاستعادة مجدها وكرامتها، وعزها وشرفها.

كان يتألم بما يراه من أحوال المسلمين السيئة، ويحترق لما يشاهده من ابتعادهم عن الدين وانحرافهم عن الجادة ووقوعهم في المعاصي والآثام، وانغماسهم في الشهوات والملذات، وانقسامهم بين فئات متحاربة، وتغافلهم عن الدسائس والمؤامرات التي تحاك ضدهم بغاية من الدقة والتخطيط، ولذلك نجده حين ندخل عليه مهمومًا لما يجري ويحدث في العالم الاسلامي ولا سيما في العالم العربي من تغيرات وتطورات تتعارض مع الدين والشريعة، ويبدي قلقه على ما تتخذ من خطوات وإجراءات باسم التقدم والترفيه في الدول التي ينظر اليها المسلمون بغاية من الاحترام والتقدير بينما كان يبدو نشيطًا ومتحمسًا للغاية للقيام بكل ما يعود إلى المسلمين بالنفع والخير.

وكان قد واجه هذا الراحل في حياته كثيرًا من المحن، وتعرض لكثير من البلايا، ومرَّ بمراحل كثيرة امتحن فيها صبره وحلمه، وكيف لا! فقد قال نيينا محمد صلى الله عليه وسلم: ” أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل” فكل من تقرب الى الله وحبب إليه لابدَّ له من مواجهة هذه المحن والبلايا وهي سنة من السنن الإلهية في الكون.

وكان ابن اخت سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، فتربى عليه ونهل من منهله واستنار بفكره وسار على منهجه، وصبغ نفسه بصبغته، وتحلى بخلقه فخلفه من بعده، وأدى دوره وملأ الفراغ الذي تركه بانتقاله الى جهة ربه فترأس المنظمات وأشرف على الحركات، وتولى رياسة الجمعيات بدون أى طلب، وبدون أي رغبة في الحصول عليها.

 فكان هذا الرجل الوحيد الذي كان يجمع عليه المسلمون لما كانوا يرون فيه من الصدق، والأمانة، والنزاهة والعفة، والحكمة، والحلم والأناة، والصبر والتحمل، واللينة والمرونة، والزهد والاستغناء، والتقشف، وصفاء القلب، ورحابة الصدر، والتعامل مع الآخر باللطف والكرم، وإعطاء كل ذي حق حقه وتأدية الأمانة إلى أهلها.

وأكبر ما يوصف به هذا الرجل التقي النقي الطاهر الذی كان موضع ثقة وحب وتقدير لدى جميع طوائف الإمة في الهند، هو التواضع والمسكنة، وخفض الجناح، وهذا ما دعاه نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم لنفسه قائلا: “اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا، واحشرني مع زمرة المساكين يوم القيامة” (ابن ماجه)

فعاش هذا الرجل مسكينًا، ومات مسكينًا، ويحشر يوم القيامة مع زمرة المساكين، كما دعا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لنفسه.

وهذه الصحيفة “الرائد” تُعَدُّ من مآثره التي تخلد ذكره، لأنه هو أبو عذرتها، وأنشأها، وخطط لها، ونظم أمرها، وقد أصدر عددها الأول على نفقته الشخصية، وقدمه إلى رئيس ندوة العلماء حينذاك الدكتور عبد العلي الحسني الشقيق الأكبر لسماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، فأبدى إعجابه بها، وقدأصدرها لا لطلب نفع مادي ولا لكسب سمعة، يقول:

“أصدرناها، لا لنفع مادي، ولا لمسايرة ركب الحضارة، ولا للاستجابة لمطالب الزمن فحسب؛ بل إنما لتكون غذاءًا للعقول، ومددًا للأقلام، وحافزًا للقرائح في دار علومنا هذه.

ولم يبعثنا على ذلك إلا لأن الصحف والمجلات العربية الصادرة اليوم في أنحاء العالم لا تقضى حاجتنا نحن أبناء دار العلوم الذين لهم رسالة إسلامية رفيعة دقيقة الأهداف ممهدة الأطراف، وذلك لأن هذه الصحف والمجلات تحمل في ثناياها سمومًا فتاكة للناشئة الإسلامية وهي بذور للفسق والوقاحة والإلحاد تبذرها في نفوسهم وقلوبهم، فنرى أن الفائدة العلمية والأدبية التي نؤمل الحصول عليها من بينها تختلط وتمتزج بهذا الضرر المخيف الذي أوضحناه والذي نرى الأمة الإسلامية والناشئة الإسلامية في أشد الحاجة إلى الاتقاء منها ولا يمكن بمساعدة هذه الصحف أن نحقق آمالنا من بناء مجتمع إسلامي سليم فاضل”.

وكان دائمًا يفكر في المشاكل التي تعاني منها الأمة الإسلامية في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي، وكيفية إنقاذها من هذه المشاكل والقضايا كما يتجلى مما كتبه في إحدى افتتاحياته للرائد، فيقول:

“لقد خرج المسلمون عندما خرجوا بخير أخلاق وبخير خصال، ففتحوا القلوب، وفتحوا النفوس قبل أن يفتحوا الحكومات والبلاد، وقدموا نماذج من أروع ما يمكن أن يتصوره الإنسان في التاريخ، فهزوا العالم هزاً، وأحدثوا زلزالاً لم يعهد مثله منذ القديم، ومهدوا للركب الإنساني طريقاً واسعاً إلى الخير والفضيلة والسلام من سلك فيه فقد أحرزهما لانتصاره ونجاحه في الحياة في الدنيا وفي الآخرة كذلك.

ولقد كان هذا الطريق، هو الطريق الوحيد للنجاة في كل عصر ومصر عندما يعم الظلام في كل جهة، وتخبط الإنسانية البائسة فيه خبط عشواء، وتتسكع في مهامه الحياة، وهو الطريق الذي كان ضماناً للمسلمين أيضاً في جميع عصورهم، كلما اتبعوه وسلكوا فيه نجوا وأحرزوا الانتصار والكرامة، وكلما حادوا عنه وقعوا في ذلة وخسران، وقع ذلك في الأندلس عندما دخلوا فيها، ووقع فيها عكس ذلك عند خروجهم منها، ووقع ذلك عند فتوح العجم والعـراق، ووقع عكسه عند ما لقوا القتل والإهانة في عروس بلادهم بغداد.

وهذا هو الطريق الذي لا مناص للمسلمين من اختياره إذا أرادوا الكرامة، فقد جربوا ذلك مراراً، وليس من المعقول أن يغفلوا عنه، وينخدعوا بتيارات عقلية جديدة، وأنظمة متطرفة أخرى مما لا يصادق عليه دينهم ولايتفق معه تاريخهم، ولا تقبله مثلهم ونظم حياتهم، فقد يجوز أن يشتهوا الجديد، وترغب نفوسهم إليه، ولكنه ليس من اللازم أن يجدوا في كل جديد الدواء والخير.

إن المسلمين اليوم في حاجة إلى دواء يشفيهم من هذه الأسقام التي تعرضوا لها منذ زمان، وفي حاجة إلى فضيلة وخير ينفيان عنهم هذا الهوان والذلة التي يلاقونها في كل مجال من الحياة المعاصرة، إنهم في حاجة إلى سابق قوتهم، وسابق عزهم، وسابق مهابتهم، إنهم في حاجة إلى سابق إيمانهم، وسابق ثقتهم، وسابق ثباتهم، وسابق جديتهم، وصرامتهم، فهم حقيقون بها ومحتاجون اليوم إلى اختيارها”

×