شمس كانت ساطعة، فغربت!
9 سبتمبر, 2023فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي كما يراه كبار علماء عصره
9 سبتمبر, 2023الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي وحلمه
الدكتور محمد أكرم الندوي
قالوا: ما معنى الحلم؟ قلت: هو الهدوء والتأنّى وضبط النفس عند بواعث الغضب والاستفزاز، وهو الإحجام عن سبِّ اللئام والأنذال تنزُّها، والكف عن الانتقام من الخِساس والأوغاد ترفُّعا، والحلم عن قدرة سهم من السخاء والكرم، ونصيب من السماحة والندى. ولَلحلمُ خير مغبةً ومصيرا، وأحسن عقبى ومآلا، وكنز لا ينفد على البذل والإنفاق، وذخيرة لا يُضرب لها بالإعدام والإملاق، وهو ظل تجلي صفة الرحمن، وصفوة خصال الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، وجُنَّة من مكايد الشيطان، وعصمة من هجمات النفس وطيش الطائشين ورعونة المتهورين الجاهلين.
قالوا: نعت الله تعالى إسماعيل عليه السلام بالحلم “فبشرناه بغلام حليم”، ونسبه في مكان آخر إلى الصبر “وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين”، وأيضًا قال على لسانه: “ستجدني إن شاء الله من الصابرين”، فهل الحلم والصبر يتعاقَبان ويتوالَيان؟ قلت: لا يترادَفان، بل قد يتلازَمان، الصبر معناه الحبس، وهو ثلاثة أنواع: صبر عن المعاصي، وصبر على الطاعات، وصبر على المكاره والمشاق، فإسماعيل عليه السلام ذو حلم مضمومٌ إليه الصبر متوافقَين متناسقَين، وبلغ من صبره أنه رضي بأن يُذبح طاعةً لله تعالى واستسلامًا، صبرٌ يعجز أولو العزم أن يرتقوا إليه ارتقاء، وتزول الجبال الراسيات من إطاقة ما أطاقه، ما أبلَغَه تجلُّدا في غير جزع ولا أسى، وما أسماه إذعانا وانقيادا. وحلمُه هو تأنِّيه وقصدُ هديه إذ يفشل ذوو الرزانة والوقار، ويخفق أهل العزيمة والتثبت إخفاقا، وهل يملك أحد نفسَه إذا قال له أبوه إني أرى في المنام أني أذبحك؟ هذه كلمة تُغْري الهادئين إغراء، وتُهَيِّج النفوس المطمئنة تهييجا، وتسلُبهم معانيَ البر والإطاعة، ثائرين باغين، وهل شهدت السماوات والأرضون سمتا نقيا يشبهه، وتؤدة طاهرة عفيفة تماثله براءة وعلوا.
قالوا: وهل وُصف غير إسماعيل بالحلم في القرآن الكريم؟ قلت: نعم، ومن ينسى إبراهيم الخليل أفضل العالمين حلما ووقارا؟ وما أوقع طائرَه وما أهدأ فورَه! لما أرسل الله الملائكة بالعذاب إلى قوم لوط، وقد جاؤوا إبراهيم بالبشرى، قال: ما خطبكم أيها المرسلون، قالوا أرسلنا إلى قوم مجرمين، فجادل ربه أن يرفع عنهم العذاب أو يؤجله تأجيلا، قال: “إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جا أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود”، فأبْلِغ به حلما ورزانة ورجاحةَ عقل وسكينة، انظروا إلى الفارق البعيد والبون الشاسع بينه وبين المسلمين في زماننا الحريصين على عذاب أعدائهم مستعجلين استعجالا، وداعين عليهم بالهلاك والدمار لاعنين إياهم لعنا، كان قوم لوط يعملون السيئات، مستوجبين العذاب، ولما جاءهم جادل إبراهيم ربه، ضابطا نفسه عن الغضب في وقت يستشيط فيه العقلاء غضبا في حنق واهتياج.
قالوا: نصادف فيك من سمات الحلم وثبات الوطأة ووزن الرأي، فلا تستثيرك الحفائظ ولا يغيظك ما يغيظ غيرك، قلت: لست حليما، ولكني أتكلف الحلم والأناة، والتؤدة والثبات، وقد تضطرم في نار الغضب فيغرُب عني الحلم ويُجانبني مجانبة، ثم سرعان ما أندم وأتوب وأعزم على التحلم، وهكذا حياتي متصارعة بين الحلم والغليان، والأناة والثوران، وأفضل الحلم ما كان كالطبع في نفس صاحبه.
قالوا: من اتخذت أسوة لك في الحلم؟ قلت: أسوتي فيه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما وخلق من السلف. قالوا: اذكر لنا من شيوخك من اعتمدتَه حليما واستفدتَ منه قصد الهدي وخفض الجأش، قلت: هو شيخنا العلامة الشريف محمد الرابع الحسني الندوي كريم الخليقة، سمح السجية، مهذب الأخلاق، مقوم الشيم، أفضل من تأدَّبت عليه حلما وبعد أناة، قالوا: اذكر لنا أهم معالم حلمه، قلت: هي ثلاث:
الأولى: حلمه عند بواعث الغضب، فقد شهدناه أكمل الناس سكون ريح وهدوء فور، لا تهيجه المهيجات ولا تُلهبه مواقف الإغاظة والإثارة، لم نعاينه خلال تدريسه لنا في دار العلوم لندوة العلماء سخط علينا قط غضبا أو احتدادا رغم تكاثر الدواعي والحوافز، كان مثقلا بأعباء مسئوليات إدارية مختلفة في دار العلوم لندوة العلماء، فكان يتأخر أحيانا في تشريفه في حصتنا، وكنا كثيرا ما نستغل تأخره فنذهب إلى مقصف دار العلوم نتناول الشأي، فإذا طالب يتبعنا أن الشيخ ينتظركم في الفصل، فنرجع وهو جالس وحده، فيبدأ تقرير الدرس علينا من دون أن يبدي استياءا أو كراهية، ومرة طلبنا إلى غرفته، فقال: إن المقرر من مادته التدريسية لم يكمل والخطأ في ذلك منه ومنا جميعا، فلم يعتب علينا بل وأشرك نفسه في اللائمة والعذل. وسبَّه مرة بعض الكبار بأبشع كلمة فرفع نفسه عن الاحتدام غير متوغِّر صدره ولا ناقمة نفسه.
قالوا: ما الثانية؟ قلت:
الثانية: حلمه عند الفتن، إذ يطيش الناس حاملين ضغائن وإحنا، وسخائم وأحقادا، وتجيش عواطفهم، متجهمين عابسين، مكفهرة وجوههم ومشمئزة نفوسهم، ومن الفتن التي عاصرناها ما نتج عن قضية المسجد البابري في الهند، فوقف منها موقف العاقل الرزين والفَهِم الرصين، الذي تمنعه الرويَّة من الاستعجال، فلم يجرِ وراء النعرات والعواطف، بل تثبَّت تثبت ذوي الحِجى مثابرا على الآداب، ناظرا في مصالح أمته ووطنه، ولما نشبت حرب الخليج كابد من الأسى والتوجع ما الله به عليم، ثم لما تتابعت الزلازل والدواهي وأحيا الناس معالم الفتن، وحلُّوا عِصم الهيج، وتدرَّعوا جلابيب الاضطرابات في العالم العربي والإسلامي، لم نره فيها إلا متثبتا صامدا، صارفا همته إلى ما يطمس به معالم الفتن، ويطفئ نيرانها، ويقص أجنحتها، وتسكنبه الدهماء، وعاضا بنواجذه على ما يحصِّن به نفسه من نوازل المكروه ولواحق المحذور.
قالوا: ما الثالثة؟ قلت:
الثالثة حلمه في المحن، فإنه صبور على الأذى، متريِّث في مسيره، ومتمهل في طريقه، وحليم عن الإعراب عن سخطه ومساءته، غير مستثير دفائن الأحقاد ولا مستخرج كمين أضغان الصدور، طوعُ الجناب، لين العريكة، سلس القياد، ترى أصحابه يستمتعون بصحبته، غير ماليه ولا متبرمين به في حضر ولا سفر. وتستشيره في أمورك الخاصة فلا يستعجل، ويشير عليك بما يكون في مصلحتك ناصحا لك، فإن الحلماء لا يشيرون إلا بالخير، والجهال يشيرون بضده، وقد يصمت وصمته أدنى لبعض الرشاد، في حسن تدبير وتجربة، وتمهل، وله مع ذلك مهابة، ولا ينطق حين ينطق ولا يصمت حين يصمت رائضا نفسه إلا ليرد الناس إلى فعل الخير ولزوم العدل، وما أغفلنا رأيه ولا أهملنا مشورته إلا لزمنا من وقوع المكروه بنا وبلوغ المحذورات إلينا ما زادنا لحلمه محبة ولأناته احتراما، وإن العاقل قد يبلغ بتؤدته وحيلته ما لا يبلغ الملوك بالخيل والجنود.
قالوا: هل رأيتموه فرط منه شيء فأخذته الندامة؟ قلت: لا، ما جربنا عليه إفراطا ولا تفريطا ولا مجاوزة للقصد ولا تعديا ولا اشتطاطا، حتى في مواقف استعجل فيها كثير من القادة والرؤساء ماضين غير رابعين على استعداد، ولا معرِّجين على إحكام، فوقعوا في فلتات وتعرضوا لعثرات، وندموا، ولم ينفعهم الندم، وشيخنا فهو الداعي إلى الخير والربح، والمجتنب الشر والخسران لا يلفظ من الكلام إلا ما قد تروَّى فيه وقدَّره، ولا يتكلم عما لا يهمه ولا يسأل عنه، غير قائل ما لم يستيقنه ولم يستوثق منه، ولا مظهرا من الأمر ما يندم عليه وتخشى عواقبه.
قالوا: سمِّ لنا آخر من شيوخك ممن تعلمت منه الحلم؟ قلت: أجيبكم بشرط أن لا تسألوا عن ثالث لهما، قالوا: رضينا، قلت: الثاني هو سَوْغه شيخنا محمد واضح رشيد الندوي، فما أشدهما تشابها وتقاربا في الحلم والتأني، وحسن سمت وقصد هدي، غير طائشَين ولا خفيفَي القياد.
قالوا: فما توصينا؟ قلت: أوصيكم ونفسي بالتأني، وأن لا يستفزكم الغضب، غير متلظين على الناس ولا متلهبين عليهم تلهبا، فإن الغضب أجدر الأشياء مقتا، وأن لا تستعجلوا في اتخاذ رأي أو قرار أو موقف عند الفتن والمحن، واعلموا أن السباحة في الماء مع التمساح تغرير، وأميتوا الأضغان مذهبيها من صدوركم وسلوا السخائم نازعيها من قلوبكم، وتأنوا واسكنوا، باذلين جهدكم في رضا الله عز وجل، فإن الروية والحلم والوقار من باب العقل والشرف، وإن للحلماء فضلا في حلمها أعظم، وحلة لا تخلق جدتها، ولذة لا تصرم مدتها.
قالوا: أفدنا بترجمته، قلت: هو العلامة الشريف الأديب الأريب الناقد البصير محمد الرابع بن رشيد أحمد بن خليل الدين أحمد بن رشيد الدين بن سعيد الدين صابر بن غلام جيلاني بن محمد واضح بن محمد صابر بن آية الله بن عَلَم الله الحسني العلوي، ابن أخت شيخنا الإمام أبي الحسن علي الندوي رحمه الله تعالى.
ولد سنة تسع وأربعين وثلاث مائة وألف من الهجرة النبوية في دائرة العالم الرباني علم الله البريلوي، وهي ضاحية من ضواحي بلدة رائي بريلي على بعد ثمانين كلومترًا من لكنؤ، نشأ في بيته الذي يمتاز بالشرف، والطهارة، والعلم، والعمل، وأتم دراساته العالية والعليا في دار العلوم لندوة العلماء، وتخرج فيها سنة سبع وستين وثلاث مائة وألف، ورحل إلى الحجاز سنة إحدى وسبعين وثلاث مائة وألف، وقضى بها أكثر من عام ينهل من منابع العلم والأدب، ويستفيد من العلماء والصالحين، ويزور المكتبات والخزائن العلمية، وتخصص في الأدب العربي وبرع فيه وتقدم وفاق الأقران حتى عرف به، واعتنى بتاريخ البلدان العربية، وعلم الاجتماع التربوي اعتناء كبيرًا قلما يوجد له نظير، إلى جانب إلمامه بعلوم التفسير والحديث، ومما منّ الله تعالى عليه أنه حصل على إجازات ثلاثة من أكابر مسندي زمانهم: الإمام أبي الحسن علي الحسني الندوي، والمحدث الكبير العالم الرباني محمد زكريا الكاندهلوي، والإمام الحافظ عبد الفتاح أبو غدة رحمهم الله تعالى.
عيّن أستاذا مساعدًا في كلية اللغة العربية وآدابها في ندوة العلماء سنة ثمان وستين وثلاث مائة وألف، ثم اختير رئيسًا لها سنة اثنتين وثمانين وثلاث مائة وألف، وعمل مديرًا لدار العلوم لندوة العلماء منذ سنة ثلاث عشرة وأربع مائة وألف إلى أن توفي الإمام أابو الحسن الندوي ثالث عشري رمضان سنة عشرين وأربع مائة وألف، فاختير خلفًا له في رئاسة ندوة العلماء.
ومما ألفه “الأمة الإسلامية ومنجزاتها”، و”التربية والمجتمع”، و”الثقافة الإسلامية والواقع المعاصر”، و”منثورات في أدب العرب”، و”الأدب العربي بين عرض ونقد”، و”تاريخ الأدب العربي (العصر الإسلامي)، و”الأدب الإسلامي وصلته بالحياة”، و”محتار الشعر العربي”، و”العالم الإسلامي اليوم”، و”روائع من الأدب الإسلامي القديم”، و”المسلمون والتربية”، و”موافقات ومفارقات في المدنية الغربية”، و”الدين والأدب”، و”جزيرة العرب”، وغيرها من المؤلفات القيمة باللغتين العربية والأردية إلى جانب المآت من المقالات والبحوث العلمية والأدبية.
وشيخنا – حفظه الله تعالى – على طريقة السلف الصالحين في علمه وعمله، وورعه وتقواه، وعفافه وغناه، وزهده وإخلاصه، وتواضعه وفضله، وشرفه وسؤدده، ورجاحة عقله، وحلمه وتأنيه، واتزانه واعتداله، وإني صحبته منذ أكثر من عشرين عامًا فما وجدت أحدًا من العلماء والطلاب في دار العلوم لندوة العلماء وخارجها يغمزونه في شيء من العمل والخلق.
وقد تشرفت بعدة رسائل منه كتبها إلي، معظمها تتعلق بنصائحه حول إقامتي في بريطانيا واستفادتي العلمية، وسمعت منه الحديث المسلسل بالأولية في منـزلي بأوكسفورد رابع جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وأربع مائة وألف، وكتب لي إجازته، وحضرته في تكية كلان برائي بريلي في شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وألف، واعتكفت معه العشر الأخيرة، واستمعت إلى خطاباته، وأخذت منه المسلسل بالأولية، والمسلسل بالمصافحة، والمسلسل بالأسودين التمر والماء. كما قرأت عليه أشياء من كتابه “الأدب العربي بين عرض ونقد” مع شرح منه لكل جزء من أجزائه شرحًا وافيًا والإفادات العلمية والأدبية الكثيرة التي قلما تجتمع في كتاب، وقرأت عليه معلقة امرئ القيس ومعلقة طرفة بن العبد، وأملى علينا كتابه “التربية والمحتمع” الذي لخّص فيه النظريات الاجتماعية القديمة والحديثة مع تطبيقها في المجتمعات الإسلامية.
وشيخنا قدوة مُثلى لتلاميذه في دار العلوم من الناحيتين العلمية والعملية، يخص كل واحد منهم بقسط من عنايته واهتمامه، في شرف أصيل وتواضع جميل، فلا هزل ولا سخف، ولا تعالي ولا كبرياء، وإنما القرب والألفة وشفقة الوالد على أبنائه.