أمراض المجتمع وعلاجها (10)

الهند والمسلمون: تاريخ من التضحية وتحديات الواقع
22 يونيو, 2025
أمراض المجتمع وعلاجها (11)
22 يونيو, 2025

أمراض المجتمع وعلاجها (10)

الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي

الغِيبة:

هي أن تذكر أخاك المسلم بما يكرهه وهو غائب، وقد ورد تفسيرها وشرحها في الحديث النبوي الشريف. فقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة يومًا فقال:

“أتدرون ما الغِيبة؟”

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: “ذكرك أخاك بما يكره”.

قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟

قال: “إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه”. (صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الغيبة: ٦٧٥٨)

غالبًا ما يقع الناس في خطأ شائع، وهو أنهم يظنون أن الحديث عن عيب موجود في شخص لا يُعد من الغيبة، لكن هذا الحديث النبوي الشريف يوضح بجلاء أن الغيبة متعلقة بذكر ما هو موجود، أما غير الموجود فهو بهتان وافتراء، وهو من أبشع الذنوب وأشدها خطورة.

من الأسباب الشائعة للوقوع في الغيبة سوء الخلق، وبعض الناس يقعون فيها لمجرد قلة الحكمة وعدم إدراك العواقب، فلا يخطر ببالهم ما تجرّه الغيبة من أضرار في الدنيا والآخرة. كما أن من الناس من تحركهم الأنانية، فلا يتحملون سماع المدح في غيرهم، فيسرعون إلى فضح عيوبهم.

ويقتضي الخلق الإسلامي أن تُذكر الحسنة ولو كانت قليلة، ويُغض البصر عن السيئات، ويُشاع المعروف ويُكتم القبيح، ومع ذلك إذا كان المقام مقام شهادة، أو استُشير الإنسان في أحد، فعليه أن يُبدي رأيه بصراحة وفق ما يعلم. عندما استُفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن اثنين لأجل الزواج، لم يُخفِ شيئًا، بل أوضح الحقيقة كاملة، وبيّن النقائص أيضًا، حتى لا يقع أحد في خطأ يورثه الندم لاحقًا. فلما استشارت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم في زواجها، وقد خطبها معاوية بن أبي سفيان وأبوالجهم، فاستفتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: “أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه، ولكن أنكحي أسامة بن زيد”. (صحيح مسلم: كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها: 1480).

لقد نشأ عند المحدثين علم مستقل يُعرف بـ”الجرح والتعديل” من أجل التحري عند نقل الروايات عن غير الثقات، وحتى لا تنتشر في المجتمع روايات لا أصل لها، فكان ذلك لمصلحة شرعية دينية. وحتى الآن إذا اقتضى المقام، فلابد من بيان الحق بصراحة، بشرط أن لا يتجاوز المرء الحدود، لأن كثيرًا ما تختلط المصلحة بالدوافع النفسية وتتسرب الأنانية في هذا الباب وتتزين بثوب النصيحة.

على الرغم من أن هذه المعصية قد ذُكرت في الحديث ضمن كبائر الذنوب وأقبح المعاصي، إلا أننا نراها اليوم قد ظهرت حتى في بعض الأوساط المتدينة، وقد روى البيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الغيبة أشد من الزنا” قالوا: يا رسول الله وكيف الغيبة أشد من الزنا؟ قال: “إن الرجل ليزني فيتوب فيتوب الله عليه” – وفي رواية حمزة – “فيتوب فيغفر الله له وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفرها له صاحبه”. (البيهقي: شعب الإيمان، فصل فيما ورد من الأخبار: 6465)

من الواضح أن الغيبة تهدف إلى الحطّ من شأن الشخص في المجتمع، وهذا ضرر جسيم بحقه، ولهذا السبب شُبهت الغيبة بأكل لحم الأخ الميت في الشريعة الإسلامية، والمغفرة لهذا الذنب مشروط بطلب الصفح من صاحب الحق، لأن الغيبة تدخل ضمن حقوق العباد، ويغفر الله تعالى حقوقه برحمته، أما حقوق العباد فلا تُغفر إلا بالأداء أو المسامحة.

قد تقع مواقف يكون فيها طلب السماح من المغتاب متعذرًا إما لوفاته أو للخوف من فتنة بسبب انفعاله، وقد جاءت السنة بحل حكيم في مثل هذه الأحوال، كما جاء في الحديث الشريف: “إن من كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته تقول اللهم اغفر لنا وله”. (البيهقي: شعب الإيمان، فصل فيما ورد من الأخبار: 6519)

والظاهر أن هذا الحديث خاص بالأحوال التي يتعذر فيها طلب المعذرة، أو يُخشى من الفتنة عند محاولة الاعتذار، وذلك لأن الرواية السابقة عند البيهقي صرّحت بأن مغفرة هذا الذنب صعب ما لم يُطلب العفو، ولهذا ينبغي فهم هذا الحديث الثاني في ضوء تلك الحالات الخاصة فقط.

كما أن الغيبة من أفحش الذنوب وأخطرها أثرًا، فإن الإصغاء لها أو الجلوس في مجالسها دون إنكار يُعدّ إثمًا بحدة، بل مشاركة صامتة في الجريمة، وقد جاء في الحديث الشريف:

“من اغتيب عنده أخوه المسلم فنصره، نصره الله في الدنيا والآخرة، وإن لم ينصره أدركه الله في الدنيا والآخرة” (مصنف ابن عبد الرزاق: باب الاغتياب والشتم: 20258)

يفهم من الحديث الشريف أنه إن اضطر الإنسان لحضور مجلس ذُكرت فيه غيبة أحد المسلمين، فإن من واجبه أن يذبّ عن أخيه، ويدافع عن سمعته، فذلك موقف نبيل يُثاب عليه، إذ هو بذلك يحفظ حرمة أخيه، ويصون كرامته من أن تُداس على مرآى ومسمع من الناس، ومن فعل ذلك نصره الله في الدنيا والآخرة، وأكرمه بالعزة، وصانه من الذل. أما إذا جلس الإنسان في مجلس الغيبة مشاركًا بصمته، مستمعًا برضا، ولم يُبدِ أدنى إنكار أو استياء، فإن ذلك وبال عليه، وخطر يتهدده بذلّ في الدنيا وخزي في الآخرة، إذ هو قد رضي بهتك عرض أخيه ولم يحرّك ساكنًا.

وفي سورة الحجرات، ينهى الله تعالى عن هذا الفعل بقوله: “وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً”. (الحجرات: 12)

في هذه الآية، تم بيان قبح الغيبة بمزيد من الإيضاح، حيث تم مراعاة مشاعر الإنسان ونفسيته، فقال الله تعالى:

“أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا؟ فَكَرِهْتُمُوهُ”. (الحجرات: 12) تتجلى فظاعة الغِيبة بأسلوب يهزّ الوجدان، فيُخاطب الفطرة، ويستنهض الضمير الحيّ، إذ يُشبّه المغتاب بمن يأكل لحم أخيه ميتًا

الغريب أن الغيبة تسري في المجالس كما يسري النسيم، لا يشعر بها أحد، بل تمضي بسلاسة حتى لا يكاد أحد ينتبه إليها، بل قد يجد فيها البعض لذة ومتعة الحديث. ولهذا جاء العلاج القرآني مخاطبًا الضمير الإنساني: تخيّل أنك تنهش جسد أخيك الميت، أليس في هذا ما يُقرف النفس ويصدّها؟!

قد لا تبدو الغيبة للناس سوى كلمات عابرة، ولكن في الحديث النبوي تجلّت حقيقتها بصورة مرعبة: امرأتان صائمتان كادتا تهلكان من الضعف، فلما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تتقيآ، خرج ما يعادل جرم الغيبة: لحم البشر ودمهم، فكانت الصورة أبلغ من ألف موعظة. (البيهقي، دلائل النبوة: 2437)

تُفصح هذه الرواية النبوية عن حقيقةٍ مهمة، وهي أن من يعتاد الغيبة تُحرَم عليه البركة في أعماله الصالحة، ويصبح ذهنه ميّالًا إلى الباطل والفحش في القول والفعل.

وكما شبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم المغتاب بمن يأكل لحم أخيه ميتًا، فقد أشار أيضًا إلى فضل من يدافع عن عرضه، فقال عليه الصلاة والسلام:

“من ذبّ عن لحم أخيه بالغيبة، كان حقًّا على الله أن يعتقه من النار”. (البيهقي: شعب الإيمان، فصل 29: 7643)

فمن يذود عن أخيه عند تعرضه للغيبة، كأنه يحفظ لحمه وجلده من أن يُنهش، فيجزيه الله تعالى بالمثل، ويحفظه من لهيب النار.

[تعريب: سعد مبين الحق الندوي]

×