منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (5)
18 أبريل, 2022من أخلاق الإسلام
18 يونيو, 2022الأمانة
الشيخ محمد الغزالي
الإسلام يرقب في معتنقه أن يكون ذا ضمير يقظ، تُصانُ به حقوق الله وحقوق الناس، وتُحرس به الأعمال من دواعي التفريط والإهمال، ومن ثمَّ أوجب على المسلم أن يكون أمينًا!
ومن معاني الأمانة أن تحفظ حقوق المجالس التي تشارك فيها، فلا تدع لسانك يُفشي أسرارها، ويسرد أخبارها.
فكم من حبال تقطعت، ومصالح تعطلت، لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس، وذكرهم ما يدور فيه من كلام، منسوبًا إلى قائل، أو غير منسوب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“إذا حدَّث رجلٌ رجلاً بحديث ثم التفت، فهو أمانةٌ”(1).
وحرمات المجالس تُصان، ما دام الذي يجري فيها مضبوطًا بقوانين الأدب وشرائع الدين، وإلا فليست لها حرمة.
وعلى كل مسلم شهد مجلسًا يمكر فيه المجرمون بغيرهم ليُلحقوا به الأذى، أن يسارع إلى الحيلولة دون الفساد جهد طاقته.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“المجالس بالأمانة، إلا ثلاثة مجالس: مجلسٌ يسفك فيه دم حرام، ومجلس يستحل فيه فرج حرام، ومجلس يستحل فيه مال من غير حق”(2).
وللعلاقات الزوجية – في نظر الإسلام – قداسة، فما يضمه البيت من شئون العشرة بين الرجل وامرأته، يجب أن يطوى في أستار مسبلة، فلا يطلع عليه أحد مهما قرب.
والسفهاء من العامة يثرثرون بما يقع بينهم وبين أهلهم من أمور، وهذا وقاحة حرمها الله.
فعن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجال والنساء قعود عنده، فقال: “لعل رجلاً يقول: ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها” فأرم القوم فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهن ليقلن وإنهم ليفعلون، قال: “فلا تفعلوا فإنما مثل ذلك الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون”(3).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا:
“إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها”(4).
والودائع التي تدفع إلينا لنحفظها حينًا، ثم نردها إلى ذويها حين يطلبونها هي من الأمانات التي نسأل عنها.
وقد استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هجرته ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ليسلم المشركين الودائع التي استحفظها مع أن هؤلاء المشركين كانوا بعض الأمة التي استفزته من الأرض، واضطرته إلى ترك وطنه في سبيل عقيدته، لكن الشريف لا يتضع مع الصغار.
قال ميمون بن مهران:
“ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر: الأمانة، والعهد، وصلة الرحم”(5).
واعتبار الوديعة غنيمة باردة، هو ضرب من السرقة الفاجرة.
عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: “القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة، وإن قتل في سبيل الله فيقال: أدّ أمانتك، فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ قال: فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية، ويمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة”، وأشياء عددها، “وأعظم ذلك الودائع”(6).
قال راوي الحديث: فأتيت البراء بن عازب، فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا! قال – البراء -: صدق، أما سمعت الله يقول: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ” [النساء:58].
والأمانة التي تدعو إلى رعاية الحقوق، وتعصم عن الدنايا، لا تكون بهذه المثابة إلا إذا استقرت في وجدان المرء، ورست في أعماقه، وهيمنت على الداني والقاصي من مشاعره.
وذاك معنى حديث حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
“أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة”(7). والعلم بالشريعة لا يغني عن العمل بها، والأمانة ضمير حيّ إلى جانب الفهم الصحيح للقرآن والسنة.
فإذا مات الضمير انتزعت الأمانة، فما يغني عن المرء ترديد للآيات، ولا دراسة للسنن، وأدعياء الإسلام يزعمون للناس – وقد يزعمون لأنفسهم – أنهم أمناء، ولكن هيهات أن تستقر الأمانة في قلب تنكر للحق.
ومن ثم يستطرد حذيفة في وصفه، لتسرب الأمانة من القلوب التي تخلخل فيها اليقين، فيروي عن الرسول:
“ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال:
“ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرًا وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أمينًا، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان”(8).
والحديث يصور انتزاع الأمانة من القلوب الخائنة تصويرًا محرجًا، فهي كذكريات الخير في النفوس الشريرة، تمر بها وليست منها، وقد تترك في مرها أثرًا لاذعًا، بيد أنها لا تحيي ضميرًا مات، وأصبح صاحبه يزن الناس على أساس أثرته وشهوته، غير مكترث بكفر أو إيمان!
إن الأمانة فضيلة ضخمة، لا يستطيع حملها الرجال المهازيل، وقد ضرب الله المثل لضخامتها، فأبان أنها تثقل كاهل الوجود كله فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بها، أو يفرط في حقها.
قال الله تعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا” [الأحزاب:72].
والظلم والجهل آفتان عرضتا للفطرة الأولى، وعلى الإنسان جهادهما، فلن يخلص له إيمان إلا إذا أنقاه من الظلم:
“الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ” [الأنعام:82].
ولن تخلص له تقوى إلا إذا نقاها من الجهالة:
“إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” [فاطر:28].
ولذلك بعد أن تقرأ الآية التي حملت الإنسان الأمانة تجد أن الذين غلبهم الظلم والجهل خانوا ونافقوا وأشركوا، فحق عليهم العقاب، ولم تكتب السلامة، إلا لأهل الإيمان والأمانة:
“لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا” [الأحزاب:73].
الهوامش:
(1) أخرجه أحمد في مسنده، برقم: 14792، بلفظ: “إذا حدث الإنسان حديثًا، والمحدث يتلفت حوله، فهو أمانة”.
(2) مسند أحمد، عن جابر بن عبد الله، برقم: 14693.
(3) مسند أحمد، عن أسماء بنت زيد، برقم: 27583.
(4) صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، برقم: 1437.
(5) شعب الإيمان، عن ميمون بن مهران، برقم: 4899، بلفظ: “ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر: الرحم توصل كانت برة أو فاجرة، والأمانة تؤدي إلى البر والفاجر، والعهد يوفى به للبر والفاجر”.
(6) شعب الإيمان، عن عبد الله بن مسعود، برقم: 4885.
(7) صحيح البخاري، عن حذيفة، برقم: 7086، ومسلم، برقم: 143.
(8) صحيح البخاري، عن حذيفة، برقم: 6497، ومسلم، برقم: 143.