الثقة بالنصر
4 أبريل, 2023التكافل والإغاثة في السنة المطهرة
4 أبريل, 2023كان ظهور الإسلام فتحًا لعالم جديد
أحمد حسن الزيات
لقد كان ظهور الإسلام هو الفاروق بين عالم قديم كان يقاسي لُهَاثَ الموتِ، وعالم جديد كان يستهل استهلال الحياة…
ومما يعزز هذا التقسيم أن الله جل جلاله قد أرسل رسوله محمدا بالهدى إلى الناس كافة، وكانت سنته من قبل أن يرسل من اصطفاه إلى البلد الذى فسد والشعب الذي شرد، فلما عمت الجهالة، وشاعت الضلالة، وأوفت الإنسانية، اقتضت حكمة الخالق أن تكون الرسالة عامة والدعوة شاملة، ومن طبيعة الشريعة العامة أن تكون كاملة لا ينالها النقص، متجددة لا يعتريها البلى صالحة لكل نفس ولكل أفق، حتى يكون فيها لكل داء علاج، ولكل قوم منهاج ولكل مشكلة حل، وتلك هي الخصائص المميزة للشريعة التي انقطع بعدها الوحى، ولصاحبها الذي اختتمت به الرسل.
كان العالم قبل الإسلام ليلا موصول الظلام بالأزل، مبسوط الهول على الأرض، ومن حقبة إلى حقبة كانت تضيء سماءه الداجية ومضات من عقل الإنسان في طيبة وأثينا، وأشعة من وحي الله فى سيناء وأورشليم، حتى إذا خبا نور العقل بحيوانية الرومان وخفت صوت الوحي بمادية اليهود، أطبق الظلام في كل سماء، وغشي الضلال على كل أرض، وسرت قافلة الحياة غويّة تخبط في مجاهل البيد، يسوقها من الشرق الفرس، ويقودها إلى الغرب الروم، ولم تكن الروم في القرنين السادس والسابع للميلاد إلا دولة منحلة ألح عليها سرف الغنى وترف العيش وفساد العقيدة وتباين المذاهب، حتى انتهى أمر دينها في بيزنطة إلى خلاف مستحكم في طبيعة المسيح، وجدل متحكم في صفات هذه الطبيعة، وآل أمر دنياها في رومة إلى استغراق في شهوات الحس ونزوات النفس كفكفت من سلطان العقل، وطأطأت من إشراف الروح، وكان من هذا الدين المسيخ ومن هذه الدنيا الداعرة أن قام في شطري الإمبراطورية الغاربة نظام من الحكم السفيه الفاجر أرهق الأمة بالضرائب، وأفسد الحكومة بالرشا، ولوث المجتمع بالرذائل، وأشعر الناس مذلة الرق، فعظموا القادة وقدسوا السادة، وألهوا القياصرة، حتى انحدر السيد والمسود والعابد والمعبود على هوة لا قرار لها إلا العدم.
كذلك لم تكن الفرس في ذلك العصر نفسه إلا حطام دولة وغناء جيل منيت بما منيت به الروم من تحلل العُقد، وتعفن الأخلاق وسطوة ، الشهوات وتفاوت الطبقات، وطغيان الملوك وبطلان الدين، وأربت عليها بنشوء المذاهب المعوجة فيها، وغلبة الميول الشاذة عليها، فمن (رمزية) زرادشت الذي مهد للمجوسية الحمقاء، إلى (عدمية) ماني، الذي حرم الزواج استعجالا للفناء، إلى (وجودية) مزدك الذي جعل الناس شركة في الأموال والنساء، إلى حال من الاجتماع العفن والنظام البالي لا يعيش فيهما حر، ولا يدوم عليهما ملك.
وكان الناس من وراء هاتين الدولتين يعيشون على حال أسوأ من هذه الحال، وفي درك أسفل من هذا الدرك؛ فالعرب واليهود قد وصفهم الكتاب العزيز بما لا بيان بعده، والهنود وأهل الصين كانوا من البوذية والبرهمية في وثنية إباحية لا حصر لأصنامها، ولا حد لأوهامها، ولا علاج لما ابتلتهم به من أدواء خلقية واجتماعية بعضها يبيد عالما بأسره، أما الشعوب الأوربية في الشمال والغرب فكانت لا تزال خارج الوجود المتمدن لا تشعر بأحد، ولا يشعر بها أحد.
على هذه الحال الأليمة والقيادة المضلة كانت قافلة الحياة تسري! ظلام مخيم على الكون كله ! فيه التهاويل التي تفزع كل نفس والعراقيل التي تصدم كل قدم، والشياطين التي توسوس هنا بالفتنة، وتغري هناك بالإثم، وتعيث هنالك في الدين، وتستعين دائما بحواء على إغواء آدم ! وما كان الله جل شأنه – ليكل رَكْبَ الخليقة إلى نفسه، فيعمه في هذا التيه وقد قضى عليه أن يقطع مراحل الدنيا ويبلغ غاية الأجل؛ لذلك أذن – وهو الرءوف الرحيم لهذا الليل أن يصبح وشاء وهو الخبير العليم أن يكون إسفار صبحه من غار حراء!
هنالك تجلى الله لجبل النور فأشرق الحجاز كله ونزل الرسول المصطفى من الغار ونور الله يسعى بين يديه، وصوت الروح الأمين يتردد في أذنيه، فدعا إلى الإسلام البداة الرعاة الذين اختارهم الله لهداية خلقه ورعاية حقه، ثم خرج بهم إلى القافلة البشرية وقد شردها الضلال وأضناها الكلال، وأعوزها الهادي الذي يدل، والحادي الذي يرفه، فرد الشارد، وألف النافر، وجمع الشتيت، وطمأن السادرين اليائسين الهلكي بقول ربه : “قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” [المائدة: 15-16].
فمنهم من آمن ومنهم من كفر … وطبق المسلمون في البلاد المطهرة المحررة شريعة الله التي تكرم الإنسان وتعلن حقوقه، وتمحو فروقه، وترفع شأنه، ثم حملوا في الشرق والغرب شعلة المعرفة بما تجمع لهم من وراثة ما مضى من الديانات والثقافات والحضارات، وأقبسوها أقواما لم يروا قبلها النور في ذهن ولا ضمير ورثوا ديانات إبراهيم وموسى وعيسى وثقافات اليونان والعبران والهنود، وحضارات المصريين والرومانيين والفرس، ثم أخضعوا هذا الإرث الضخم لعبقرية الإسلام ومزية، الجنس، فانتفى منه الخبث وارتفع الخطأ، وانجلى الغموض وكمل النقص، وأصبح صالحًا لتغذية العقول، وتقوية القلوب، وتنمية المدارك، وتكوين مجتمع صحيح قوي حر، لا يوجهه إلا الحق، ولا يحكمه إلا الله.
ثم كان من فضل الله على الناس أن أظهر نوره في مكان وسط بين قرني الشمس؛ لِيَعْشُوَ على ضوئه الضالون في الشرق والغرب من المحيط إلى المحيط.
على أن نور الله لم يلبث أن عمر الشرق حتى بلاد الصين وطبق الغرب حتى بلاد الغال، ومن حرمه الله نعمة الانتفاع بهدايته وقيادته، لم يحرمه فضل الاستمتاع بثقافته وحضارته، فالمسيحيون الأروبيون قد أخذوا ثقافة العرب عن طريق المغرب والأندلس في فتوح الهلال وقبسوا حضارة المسلمين عن طريق مصر وفلسطين، ثم كان من أثر الفتح الإسلامي للقسطنطينية أن انتشر الدين المحمدي في شرق أروبا في وسط القارة، فكانت حركة (الإحياء).
وما الإحياء إلا اختلاط الثقافة اللاتينية التي أطلقها محمد الفاتح من الأديرة والكنائس، بالثقافة اليونانية التي بعثها محمد المأمون في المساجد والمدارس ومن هاتين الثقافتين وما خالطهما من علوم الإسلام وفنون المسلمين كانت هذه الثقافة الحديثة والحضارة القائمة.
لم تكن الفتوح الإسلامية إذن فتوح استعمار وجباية، وإنما كانت فتوح تحرير وهداية كانت فتوحًا في الأرض للحرية والعمران، وفتوحًا في العقيدة للتوحيد والإيمان، وفتوحًا في الشريعة للحق والعقل، وفتوحًا في السياسة للإحسان والعدل، وفتوحًا في اللغة للأدب والبلاغة، وفتوحًا في العلم للإحياء والتجديد ، وفتوحًا في الفن للابتكار والطرافة.
والله اللطيف بعباده هو المسئول أن يظهر دين الحق على الدين كله؛ فإن الإسلامية هي الإنسانية؛ وإن القرآن هو الفرقان؛ وإن الإسلام هو السلام.