وزين لهم سوء عملهم (2/الأخيرة)
14 مارس, 2024شهر الفتح والغلبة وشهر التربية والتزكية
31 مارس, 2024الصوم في الإسلام وفضائله
العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي
جاء التشريع الإسلامي للصوم أكمل تشريع وأوفاه بالمقصود، وأضمنه بالفائدة، وقد تجلت فيه حكمة العزيز العليم الحكيم الخبير الذي خلق الإنسان “أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ” [الملك:14].
فخص شهراً كاملاً – وهو شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن – بصيام أيام متتابعات متواليات، يصام نهارها ويفطر ليلها، وهو العرف عند العرب في الصوم وهو الميزان في التشريع العالمي الإسلامي، يقول شيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي:
“ويضبط اليوم بطلوع الفجر إلى غروب الشمس، لأنه هو حساب العرب ومقدار يومهم، والمشهور عندهم في صوم عاشوراء، والشهر برؤية الهلال إلى رؤية الهلال، لأنه هو شهر العرب، وليس حسابهم على الشهور الشمسية”.
لماذا خص رمضان بالصوم؟
وجعل الله الصوم في رمضان، فجعل أحدهما مقروناً بالآخر، مرتبطاً به، فذلك قران السعدين والتقاء السعادتين في حكمة التشريع، وذلك لأن رمضان قد أنزل فيه القرآن، فكان مطلع الصبح الصادق في ليل الإنسانية الغاسق، فحسن أن يقرن هذا الشهر بالصوم، كما يقترن طلوع الصبح الصادق بالصوم كل يوم، وكان أحق شهور الله – بما خصه الله من يمن وسعادة وبركة ورحمة، وبما بينه وبين القلوب الإنسانية السليمة من صلة خفية روحية – بأن يصام نهاره، ويقام ليله.
وبين الصوم والقرآن صلة متينة عميقة، ولذلك كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكثر من القرآن في رمضان، يقول ابن عباس – رضي الله عنه –: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين يلقاه جبريل، أجود بالخير من الريح المرسلة”.
يقول العارف بالله، العالم الرباني الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي في بعض رسائله:
“إن لهذا الشهر مناسبة تامة بالقرآن، وبهذه المناسبة، كان نزوله فيه، وكان هذا الشهر جامعاً لجميع الخيرات والبركات، وكل خير وبركة تصل إلى الناس في طول العام، قطرة من هذا البحر، وإن جمعية هذا الشهر سبب لجمعية العام كله، وتشتت البال فيه سبب للتشتت في بقية الأيام، وفي طول العام، فطوبى لمن مضى عليه هذا الشهر المبارك، ورضي عنه، وويل لمن سخط عليه، فمنع من البركات، وحرم من الخيرات”.
ويقول في رسالة أخرى:
“إذا وفق الإنسان للخيرات، والأعمال الصالحة في هذا الشهر، حالفه التوفيق في طول السنة، وإذا مضى هذا الشهر في توزع بال وتشتت حال، مضى العام كله في تشتت وتشويش”.
وقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين” والأحاديث في الباب كثيرة.
موسم عالمي، ومهرجان عام للعبادات والخيرات:
وهكذا أصبح رمضان موسماً عالمياً، للعبادة والذكر والتلاوة والورع والزهادة، يلتقي على صعيده المسلم الشرقي مع المسلم الغربي، والجاهل مع العالم، والفقير مع الغني، والمقصر مع المجاهد، ففي كل بلد رمضان، وفي كل قرية وبادية رمضان، وفي كل قصر وكوخ رمضان، فلا افتيات في الرأي، ولا فوضى في اختيار أيام الصوم، فكل ذي عينين، يستشعر بجلاله وجماله، أينما حل ورحل في العالم الإسلامي المترامي الأطراف، تغشى سحابته النورانية المجتمع الإسلامي كله، فيحجم ا لمفطر المتهاون بالصوم عن الانشقاق عن جماعة المسلمين، فلا يأكل إلا متوارياً أو خجلاً، إلا إذا كان وقحاً مستهتراً من الملاحدة، أو الماجنين، أو كان من المرضى والمسافرين، الذين أذن الله لهم في الإفطار، فهو صوم اجتماعي عالمي، له جو خاص، يسهل فيه الصوم، وترق فيه القلوب، وتخشع فيه النفوس، وتميل فيه إلى أنواع العبادات والطاعات، والبر والمواساة.
الجو العالمي، وما له من تأثير في النفوس والمجتمع:
وقد لاحظ ذلك شيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، بنظره الدقيق العميق، فقال وهو يشرح حديث: “إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة” إلخ:
“الصوم إذا جعل رسماً مشهوراً نفع عن غوائل الرسوم، وإذا التزمته أمة من الأمم، سلسلت شياطينها وفتحت أبواب جنانها، وغلقت أبواب النيران عنها”.
ويقول في موضع آخر:
“وأيضاً فإن اجتماع طوائف عظيمة من المسلمين على شيء واحد، في زمان واحد، يرى بعضهم بعضاً معونة لهم على الفعل، ميسر عليهم ومشجع إياهم”.
“وأيضاً فإن اجتماعهم هذا لنزول البركات الملكية على خاصتهم وعامتهم، وأدنى أن ينعكس أنوار أكملهم على من دونهم، وتحيط دعوتهم من وراءهم”.
الفضائل، وما لها من تأثير وقوة:
إن الحياة في صراع دائم بين الشهوات الحبيبة إلى النفس، والمنافع المقررة عند العقل، وليست الشهوات هي التي تنتصر دائماً في هذه المعركة، كما يعتقد بعض الناس، فذلك سوء ظن بالطبيعة البشرية، وإنكار للواقع.
إن القوة التي تدير عجلة الحياة بسرعة، وتفيض على هذا العالم الحياة والنشاط هي الإيمان بالنفع، ذلك الإيمان هو الذي يوقظ الفلاح في يوم شات، شديد البرد، فيحرم عليه الدفء، ويبكر به إلى الحقل، وفي يوم صائف شديد الحر يهون عليه وهج الشمس ولفح السموم، ويفصل بين التاجر وأهله، ويتوجه به إلى متجره، ذلك الإيمان، هو الذي يزين للجندي الموت في ساحة القتال، وفراق الأحبة والعيال، فلا يعدل به راحة ولا ثروة ولا نعيماً، إن كل ذلك إيمان بالمنافع وحرص على الخير، وهو القطب الذي تدور حوله الحياة.
وهنالك إيمان أعظم سلطاناً على النفوس، وأعمق أثراً من الإيمان الذي ضربنا له بعض الأمثال، ذلك الإيمان بمنافع أخبر بها الأنبياء والرسل، ونزل بها الوحي، ونطقت الصحف، وهي تنحصر في رضا الله وثوابه، وجزائه في الدنيا والآخرة.
لقد علم الجميع، أن الإمساك عن الطعام في بعض الأيام مفيد للصحة، وخير للمرء أن يصوم مراراً في كل عام، وقد أسرف الناس في الأكل والشرب، وأتخموا بأنواع من الطعام والشراب، فأصيبوا بأمراض جسدية وخلقية، كل ذلك معروف ومشاهد، وآمن الناس بفوائد الصوم الطبية، وآمنوا بأنه ضرورة صحية، وآمنوا كذلك بفوائد الصوم الاقتصادية.
ولكن إذا سأل سائل ما عدد الصائمين في هذه السنة لفوائد طبية، ومصالح اقتصادية؟ وما عدد الأيام التي صاموها طمعاً في الاعتدال في الصحة أو الاقتصاد في المعيشة؟ كان الجواب المقرر، إنه عدد ضئيل جداً، ضئيل حتى في الشتاء مع أن الصوم فيه سهل هين، ورغم أن الصوم الطبي، أو الاقتصادي أسهل بكثير من الصوم الشرعي.
ثم ننظر في عدد الصائمين الذين يصومون، لأنهم يعتقدون أن الصوم فريضة دينية، قد وعد الله عليه بثوابه ورضاه، وتكفل بجزائه، فنرى أن هذا العدد – مهما طغت المادية، وضعف الدافع الديني – عدد ضخم لا يقل عن ملايين، وإن هؤلاء الملايين من النفوس لا يمنعهم الحر الشديد في الأقاليم الحارة من أن يصوموا في النهار، ويقوموا في الليل، لأن الإيمان بالمنافع الدينية التي أخبر بها الأنبياء، عند أهل الإيمان أقوى من الإيمان بالمنافع الطبية التي أخبر بها الأطباء، ومن الإيمان بالمنافع الاقتصادية التي لهج بها الاقتصاديون.
ذلك لأن المؤمنين سمعوا في الصوم، ما هون عليهم متاعب الصوم، وشجعهم على احتمال الحر والجوع والعطش، فقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:
“كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: “إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطوره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك” وروى سهل بن سعد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “في الجنة باب يدعى الريان، يدعى له الصائمون، فمن كان من الصائمين دخله، ومن دخله لم يظمأ أبداً” وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – رفعه: “من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه”.