حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (4)

حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (3)
23 يونيو, 2024

حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (4)

أ. د. وليد إبراهيم القصاب

وأشار المفضل الضبي إلى تأثر عدي ببيئته ومن يفد إليها، فقال: “كانت الوفود تفد على الملوك بالحيرة، فكان عد ي بن زيد يسمع لغاتهم، فيدخلها في شعره “ومن أجل هذا أحس النقاد أن له نمطا لغويا ً خاصاً، فقال عنه الأصمعي: “إن ألفاظه ليست بنجدية”(1).

ولاحظ أبو عمرو بن العلاء أن نشأة الطرمّاح بن حكيم بسواد الكوفة أثرت في لغته، فكثرت في كلامه ألفاظ النبيط(2).

ويتدخل في تشكيل هذه الأنماط اللغوية أيضا الدين الذي يعتنقه الفرد، فيتميز المسلمون بأشكال من التعبير لا يعرفها النصارى ولا اليهود، كما يتداول الآخرون ضروباَ من الألفاظ والكلمات التي لا يعرفها أصحاب الأديان الأخرى.

والحق بعد ذلك أن تأثير هذه العوامل الاجتماعية المختلفة – التي ذكرنا بعضاً منها على سبيل التمثيل لا الحصر – لا يقتصر على تغير أشكال التعبير فحسب، أو التميز باستعمال ألفاظ وعبارات معينة، ولكنه يجاوز هذا المعجم اللغوي الخاص بكل طبقة اجتماعية ليظهر كذلك في طريقة نطق الحروف، وإخراج الأصوات من ناحية، وفي طريقة بناء الجمل وتركيبها من ناحية أخرى.

وهكذا تبدو اللغة علامة طبقية مميزة، تدل على بيئة الإنسان ونشأته وحيه ومهنته ودينه ونوعه وعمره. وإن تغيير الفرد للغته التي تدل على وضع طبقي معين، حتى ينتقل بها إلى وضع طبقي آخر: أدنى أو أعلى؛ لأمر عسير جداً. وهو أمر – إن تأتى – لابد أن يمر بمرحلة طويلة من الدربة والمراس والمران، ثم لا مندوحة أن يندّ عن هذا الفرد بين الحين والحين ما يشعر بأصله الطبقي، أو يشير إليه من قريب أو بعيد(3).

أثر المتلقي في تشكيل الأسلوب:

إن هذه الاعتبارات جميعا توضّح أن الأسلوب – زيادة على صلته بصاحبه، وأنه ظاهرة فردية تخضع لذاتية القائل، وزيادة على مراعاته لطبيعة الرسالة التي يريد إبلاغها هو كذلك ظاهرة اجتماعية، ولا بدّ أن يأخذ في حسبانه المخاطب، وأن يراعيه، وأن يتشكّل في ضوء معرفته، ومعرفة اللغة التي تناسبه معرفة كافية.

إنّ المتلقي حاضر دائما في أي تشكيل أسلوبيّ بلاغيّ من غير أن ينفي ذلك حرية الكاتب في الاختيار؛ فلكلّ من الإرسال والتلقي دور في التشكيل الأسلوبيّ.

يقول أحدهم: “ليست الظاهرة الأدبية هي النصّ فقط، ولكنها القارئ أيضا، بالإضافة إلى مجموع ردود فعله الممكنة على النصّ، وعلى القول وإنتاجية القول..”(4).

وتهتم الأسلوبية الحديثة – على نحو ما اهتمّت البلاغة العربية –بالمتلقي اهتماما كبيرا، وتسمى الدراسة التي تبحث في ذلك” أسلوبية المتلقي” وفيها يحتلّ القارئ/ المتلقي/ مكانة بارزة في نظرية الأسلوب الأدبية الاتصالية؛ حيث لا يظهر القارئ هامشيا، وإنما لا يتحقّق الوجود الأسلوبيّ، أو الفعل الأسلوبيّ، إلا بحضوره وتجلّيه..(5).

إنّ الاختيار الذي يمارسه المبدع لألفاظه وعباراته وصوره وأفكاره، ولأسلوب نظمها على شكل معين ليس خاليا من الضبط إذن، وإن حريته في هذا الاختيار ليست مطلقة، بل يتم ذلك – في جملة ما يتم – باستحضار المتلقي، أو المخاطب، بمصطلح البلاغة العربية. وهو يشكّل عنصرا أساسيا من عناصر الاتصال اللغويّ.

إنّ النصّ الأدبيّ – بمصطلح اللسانيات، كما عبّر عنه رومان جاكبسون– رسالة من مبدع، يبعث بها إلى مخاطب، متلق، أو مرسل إليه، يستقبلها في سياق معين، ومن خلال قناة أوسيلة اتصال معينة، وبحسب نظام لغويّ “شفرة:cod “متعارف عليه بين المبدع المرسِل والمستقبل المرسَل إليه(6). وهذا كلام يلتقي – كما ترى – في كلام حازم القرطاجني الذي أوردناه في الفقرة السابقة.

يقول أحد النقاد: “ينبغي فهم الأسلوب على أنه ظواهر معينة في نص ما، أو يقصد إنتاجه في مسألة الإبداع الفني، أو يتم تحليله بالنظر إلى تأثيره في القارئ، ويمكن للإنسان أن يرمز لهذه الإمكانيات الثلاث على أنها أسلوبية نصية داخلية، وأسلوبية إنتاج، وأسلوبية تلق، ولهذا يأتي قطاع الاتصال الأدبي في المقدمة.إن عنصر الأسلوب لا يمكن تجريده من النص، ولا من المؤلف، ولا من المتلقين..”(7).

وعرف أحدهم الأسلوب بأنه يمثل أمارة يستدل بها على قدرات المنتج ومواقفه ومقاصده، وإشارة يعتمد عليها في تحقيق التأثير المرمي إليه في المتلقي..”(8). (يتبع)

المراجع:

(1). الموشّح: 103

(2). السابق: 326

(3). انظرفي تفصيل هذه المسائل:peter Trudgill. Sociolinguistics. Penguin Books, England:1981

(4). انظر ” نظريات التلقي” لجان لويدوفان، ترجمة: منذرعيّاشي ” مجلة البيان الكويتية

(5). انظر ” الأسلوبية: الاتصال والتأثير ” لموسى ربايعة ” مجلة علامات، ج27/ مجلد7، ذوالقعدة: 1418/ مارس:1998″ ص32

(6). – نحونظريةأسلوبية: ص127

(7). – انظر ” نظرية اللغة الأدبية” لخوسي هماريا إيفاتكوس، ترجمة:خالدأبوأحمد ” مكتبة غريب، القاهرة: 1992″ ص89

(8). الأسلوبية اللسانية: ص117.

 

×