العيد في قريتي

الحبّ هو المعلّم الأوّل للعقل
28 يونيو, 2020
لا تغضب
28 يونيو, 2020

العيد في قريتي

يسمي العامة عندنا عيد الفطر “العيد الصغير”، وعيد الأضحى “العيد الكبير”، وهذه التسمية عكس ما عهدناه مذ كنا صغارا، وكم جنت التسميات الخاطئة على الحقائق الناصعة، فعيد الفطر في مذهبنا نحن الأطفال هو العيد الأكبر، وله نكهته المتولدة من شهر مبارك ميمون، وهو فطر الصائم الذي لا يجزيه إلا رب العالمين، وهو العيد الذي نرتدي فيه الثياب القشيبة الجديدة، ثم تُخلع في مسائه وتُغسل وتطوى، ولا تُكتسى إلا يوم عيد الأضحى، فتجهيز الملابس موعده عيد الفطر، ومن لم يقدر على اقتنائها اكتفى بالثياب المغسولة، والأطفال يستحيون بل يخجلون من أن يبرزوا في قميص مبتذل وسروال ممتهن، يا ليت الصغار يدرون مدى شقاء الآباء في تدبير أمور العيد! وكم يصعب على أرباب البيوت السعي في إرضاء الأهلين أجمعين، وقد كنا نرى جوا من الموجدة والامتعاض يغشى بعض المنازل إذا كان شهر شوال قاب قوسين أو أدنى، ولكن العيد بيده عصا سحرية، تحول السخط رضا، والكمد ارتياحا، والانقباض انشراحا، وتبعث في الناس عزيمة على أن لا يدعوا شيئا يبخس الأفراح من احتفالهم، وأن لا يحتملوا الأسى يكدر صفو اجتماعهم.

كان أبي أو جدي يشتري ثيابي من سوق قريبة، وأحيانا كانت ثيابنا تستورد من بومباي، وهي أرق من الثياب المحلية وأغر وأروع، ثم يخيطها أمي طيلة شهر رمضان، وهي معتنية بصيامها وقيامها وقراءة القرآن، ومثقلة بتجهيز الإفطار والسحور وتنظيف البيت، وما أشد فرحي أن أرى تطورا ملحوظا كل يوم في خياطة قميصي وسروالي وتطريز قلنسوتي ومنديلي، ولن يدرك هذه الفرحة من تشترى ملابسه جاهزة من السوق، فالثوب المخيط بيد الأم كالطعام المطبوخ بيد الأم، ففيهما مزيج من حبها وعنايتها، ورأفتها وحنانها، وهذا المزيج يجعل التراب ذهبا مصفى.

إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان استبشرنا بدنو العيد، وكلما قرب استبطأناه، وكنا ننتظر بفارغ الصبر ليلة التاسع والعشرين، والقوم أحرص ما يكونون أن يستخرجوا الهلال في تلك الليلة، ورغم تماديهم في هواهم قد لايبدو الهلال فيستكملون الثلاثين وكأنهم مكرهون، كنا نزدحم على الجامع قبل المغرب بزمن طويل، ننتظر غياب قرص الشمس في الأفق مضطرمين بنار الصبوة يسكبه غنج ودلال، والسماء كم يضيء بها من أهلة، ولكن لا هلال كهلال العيد، ففي فوج من الملائكة المطهرين تجلِّيه، وبكوكبة من النجوم المتلألئة تحلِّيه، ومن عطر الكعبة ريَّاه، ومن ماء زمزم سقياه، يطلع فتطلع الأفرح والمسرات، وفي الخوافق شوق وغرام، وفي الجوانح حب وهيام، ولعل الشمس لم تحسد القمر قط إلا في هذه اللحظة، فإذا رأينا الهلال ارتج الفضاء بالتهنئة بالعيد المبارك، أهلا بالعيد، ملئت الأرجاء ضياء وتألقا، وتجدد العالم أمانيا وآمالا، جاء العيد فألغيت كل المواعيد.

أول آثار هلال العيد هو انتهاء التراويح، وكلما صليت العشاء ليلة العيد شعرت كأني فقدت صديقا عزيزا، ويا لفراغ ليلة لا تراويح فيها، كأنها عروس لا حلية لها ولا زينة، وكأن بهاء القراءة قد انقطع، وكأن نور المناجاة قد غاب، وأرجع إلى بيتي والنساء مشغولات طول الليل بتنظيف البيت وتجهيز المطاعم والمشارب.

والنوم يجفو أجفاننا ليلة العيد كأن المآقي قد كحلت بكحل الأرمد، نقوم من فرشنا مرارا مستعجلي الصباح، وأنْعِم بليلة لا نوقظ لصلاة الفجر فيها، ولا ينبهنا منبه، نعود من المسجد، ونغتسل متطهرين بصابون ناعم يفوح عرفا وشذى، ثم نرتدي الملابس الجديدة وفيها رائحة الطرافة والتطريز، وما العيد لنا نحن الأطفال إلا عبارة عن اللباس الجديد حتى سمعت خطيبنا ابتدع في خطبة العيد: “ليس العيد لمن لبس الجديد، وإنما العيد لمن خاف الوعيد”، فساءني قوله وكأنه جرد العيد عن معناه ومغزاه، وكأنه بدّل فتاة فاتنة حسناء عجوزا قبيحة شمطاء.

قميص جديد، وسروال جديد، وحذاء جديد، وقلنسوة جديدة، حلة قشيبة كاملة، تكسونيها أمي داعية لي بكل خير معيذة إياي من كل شر، أُعرِب عن فرحي وشكري على قدر رضاي بحلتي، ثم تبعثني أمي إلى جدي وجدتي، فالثوب الجديد تصيبه العين حتى يبارك فيه الكبار، فإذا رآني جداي تهللت وجوههما بشرا، وانبسطت نفوسهما بهجة وسرورا، وقالا: ما شاء الله، لا أصابتك عين، فإذا دعا جداي لي بدعوتهما الصالحة بلغ الجذل مني أقصاه وأيقنت أني محفوظ من كل سوء ومعتصم بملاذ آمن.

وكان كبارنا يذكروننا دائما أن السنة يوم العيد أن نفطر ثم نخرج إلى المصلى، ويوم عيد الأضحى أن لا نتناول شيئا من الطعام حتى نرجع من الصلاة، فكنا نفطر على لقمة أو لقمتين ثم نتجه إلى مصلى العيد، والذي يقع خارج القرية على حافة الشارع الرئيسي، فكنا نظهر من بيوتنا للعيد متعطرين متبخترين في أزيائنا وألواننا، كأن علينا خلع الأمراء وتيجان الملوك، وما رأيت الخيلاء جمالا إلا في الأولاد الأبرياء والبنيات الصغيرات.

كنا نؤمر أن نذهب إلى المصلى من طريق ونرجع من طريق آخر، فإن الطرق تشهد لنا يوم القيامة، وكنا نلتزم بهذه السنة أشد الالتزام، نخرج زرافات ووحدانا مكبرين بأصوات متخافتة، نمشي وتغمرنا مشاعر مباركة وأحاسيس طاهرة، لا نسمع لغوا إلا قيلا سلاما سلاما، نتبادل الابتسامة والفرح، وإذا مر بنا كبير عبر عن إعجابه بملابسنا ومسح على رؤوسنا ودعا لنا، ونوافي المصلى، وخلال دقائق يمتلئ بالشيوخ والشباب والأطفال، دون النساء، فالنساء كن يغتنمن خلو القرية من الرجال ويتزاورن جيراتهن وقريباتهن، فما عهدت في قريتي سفورا ولا ما يطعن في الستر والحياء والحشمة.

نجلس في المصلى مصطفين، ونستمع إلى خطاب غير رسمي بالأردية قبل الصلاة، ثم يعلموننا طريقة النية، وطريقة أداء الصلاة، ففيها تكبيرات زوائد، وما أسرع ما ينسى عامة الناس هيئتها، وفينا من الشيوخ والشباب من لا يصلي إلا العيدين، فيحتاجون إلى التذكير، ثم يقوم الإمام ويصلي بنا ركعتين، ثم يصعد المنبر، ويخطب بالعربية خطبتين في غوغاء الناس وصيحاتهم، وكان كثير من الناس يغادرون المصلى دون أن يستمعوا إلى الخطبة، وكان يؤلمني هذا الاستخفاف بشعار من شعائر ديننا الحنيف، غفر الله لنا أجمعين.

نفرغ من أداء الواجب، والمصلى كله عروس، مليئة بالعطر والسحر، مملية على القلوب أبلغ الشعر، ثم يتضامُّ الكبار، يعانق كل واحد منهم جميع المصلين، ماسحين على رؤوس الصغار بأيديهم ومقبِّليهم تقبيلا، ويستغرق ذلك وقتا طويلا.

ثم نعود إلى منازلنا معانقين ومصافحين كل من لقينا في الطريق ومتبادلين التهاني، وندخل مطبخ البيت فنرى جفنات غرا يلمعن بالضحى، وروائح طيبة يبعثن في الشبعان جوعا، وتُلقِّني أمي بالصبر فيعوقني عنه علق بقلبي من هواها، وأتهافت على أنواع المآكل تهافت الطامع الشره، كنت ألوم الطامعين الشرهين على هذه الخصلة الدنيئة، فكيف ألومهم وأنا أطمع وأشره.

وأكبر ما يجلب الأطفال “سويان”، وهي حلوى تختص بالعيدين، وما أدراك ما “سويان”؟ أريد لأنسى ذكره، فكأنما يتمثل لي “سويان” بكل مكان، و”سويان” له ألوان مختلفة بعضها أعلى من بعض، من ذاق منها شيئا لم يستطب حلويات تركيا ولبنان وسائر بلاد الشام، وقد استعار إخواننا العرب أسماء أطعمة هندية، فيا ليت من يصارحهم في غير مجاملة ولا مداهنة بأن الطعام الهندي ليس اسما يختطف اختطافا أو أعلاما ورسوما، وإنما هو ما كان على مذهب أهل الهند في الدقة والإتقان والإبداع والإحكام، وأنى للظالع أن يدرك شأو الضليع.

ثم نزور أقاربنا وأصدقاءنا، والعيد أكبر مناسبة للم الشمل وجمع المتفرق وإخراج الضغائن، ويجلس الوالد في القاعة التي عند مدخل البيت ينتظر الزائرين، يستدعي كل من مر في طريق بيتنا إلى أن يتناول شيئا من الحلويات وغيرها، ويستمر ذلك طول يوم العيد، يدخل هذا ويخرج هذا، وكنا نأكل من كل أنواع الطعام أكلات تتبعها أكلات حتى نتخم، فنصاب بالإسهال.

وكنا نتلقى يوم العيد نقودا من الكبار، تسمى “العيدي”، وكلما زرنا قريبا لنا أو قريبة كان همنا الأكبر هذا “العيدي” يهدى إلينا، ونعد المبلغ كل حين وآن، ولكن قلما كنا ننتفع بهذا المال، فكانت الأمهات يأخذنها لأننا صغار فلعلنا نضيعها، وهن يحفظنها لنا، ولا ندري ماذا كان مآل ذلك “العيدي”، ونمسي والعيد قد مضى، وآذانا مضيه إيذاءا ونحن واجمون حزينون، وهل ثمة لذة تدوم؟ وهل كتب لمتعة خلود؟ لا، بل كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

(د/ محمد أكرم الندوي)

×