حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (3)

اللِّص
6 يونيو, 2024

حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (3)

أ. د. وليد إبراهيم القصاب

الأسلوب والمقام:

والمقام أو “مقتضى الحال” هو عمدة البلاغة العربية،وقد ارتبطت به حتى صار جزءًا من تعريفها ؛ فبلاغة الكلام هي “مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته”(1)

ومقتضي الحال، أو المقام يعني – فيما يبدو: شيئين:

  • السياق الخارجي
  • المخاطب (المتلقي)

والسياق الخارجي هو الظرف،أو الموقف، أو الحال التي يقال فيها الكلام كأن يكون مقام فرح، أو عزاء، أو تهنئة، أو نكاح، أو ما شابه ذلك من أحوال ومقامات.

وتدعو البلاغة العربية القائل أن يراعي ذلك في اختيار ألفاظه وعباراته لتشكيل أسلوبه المناسب لهذا المقتضى.

يقول السكّاكي: “لا يخفى عليك أنّ مقامات الكلام متفاوتة؛ فمقام الشكر يباين مقام الشكاية، ومقام التهنئة يباين مقام التعزية،ومقام المدح يباين مقام الذمّ، ومقام الترهيب يباين مقام الترغيب، ومقام الجدّ في جميع ذلك يباين مقام الهزل. وكذا مقام الكلام ابتداء يغاير مقام الكلام بناء على الاستخبار أو الإنكار. ومقام البناء على السؤال يغاير مقام البناء على الإنكار. وجميع ذلك معلوم لكلّ لبيب..”(2)

وأما المخاطب فهو المتلقي، مستقبلُ الرسالة، وهو المستهدفُ بالخطاب،ولذلك كان عنصرا أساسيا في عملية الإبداع الأدبيّ، وهو أحد أركان نظرية الاتصال.

وهكذا يبدو الأسلوب حصيلة مجموعة من العناصر ؛هي الفرد القائل،والنصّ،والمقام، والمتلقي. وهو لا يتشكّل من واحد من هذه العناصر فحسب، بل منها جميعا. وإنّ إهمال الباحث في الأسلوب لأيّ واحد منها هو تفريط لا يعين على إيفاء الظاهرة الأدبية حقّها، ويبقى قاصرا عن الإحاطة بها.

ومن الواضح أن هذه العناصر التي تشكل الأسلوب قائمة على توازن واعتدال بين الداخل والخارج ؛فهي لا تنظر إلى بنية العمل الأدبيّ على أنها مغلقة، منعزلة عن الملابسات الخارجية: كالتاريخ، والمجتمع، والمتلقي، والمؤلف نفسه، كما فعلت بعض المناهج الشكلية الحديثة، كالبنيوية وغيرها، بل تنظر إليها – كما هو واضح– في سياقها الحقيقي.

إن الأسلوب – الذي هو اختيار من القائل لألفاظ وعبارات لا حصر لها، تضعها بين يديه اللغة، بما تتميز به من ثراء – ليس اختيارا مطلقا بل هو ” يرتكز بدوره على ما يقدمه الكاتب من تسويغات شخصية من ناحية، وعلى المعايير الاجتماعية المعمول بها في الاستعمال المنظم للوسائل اللغوية من ناحية ثانية؛ فالبناء اللغوي لأي نص يثير لدى المتلقي تداعيات كثيرة،قد تخاطبه وجدانيا وعاطفيا، أو تكون عنده تركيبا إشاريا يستطيع به أن يلج باب العمليات المعرفية..”(3)

إن الأسلوب “هو الطريقة الذاتية التي تشير إلى كيفية اختيار الفرد في سياق ما، ومقام ما، مما بين يديه من وسائل لغوي.”(4)

وسنتوقف في هذا البحث عند عنصر واحد من عناصر الاتصال،وهو المتلقي، أحد المؤثرات الأساسية في تشكيل الأسلوب، ونرى بعضا من مظاهر حضوره في البلاغة العربية:

1–اللغة ظاهرة اجتماعية:

إن البلاغة العربية قد توصّلت إلى ما توصّل إليه علم الأسلوب الحديث من أن اللغة، التي يتشكّل منها الأسلوب، هي – من جملة مظاهرها– ظاهرة اجتماعية، وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بثقافة الناس الذين يتكلمونها، وإن هذه الثقافة يمكن تحليلها بواسطة حصر أنواع المواقف الاجتماعية التي يسمى كل منها ( مقاما ).

إن اللغة – وفي وقت واحد معاً – علامة فردية مميّزة، وعلامة طبقية مميّزة في الجماعة الواحدة. وهي – باعتبارها نظاما ً اجتماعيا – تنحو مناحي كثيرة، وتظهر بأشكال لا حصر لها. فلكل فئة من الناس أسلوبها الخاص في استعمال اللغة على حسب طبقتهم الاجتماعية. للرجال ألفاظ معينة تشيع فيما بينهم، لا تعرفها النساء، ولا يتلفظن بها أبدا. وللأطفال كلماتهم وعباراتهم التي تجعل لهم عالماً اجتماعيا ً متميزاً. وللشباب والكهول والشيوخ مثل هذه الألفاظ الخاصة التي تعبر عن مرحلة من مراحل العمر، وتشبه العلامة الفارقة التي تميز هذه المرحلة.

كما أن لكل طائفة من الناس استعمالاً لغوياً يختلف باختلاف تخصصها ومهنتها، فبين الأطباء تشيع أنماط من التعبير لا يستعملها المحامون، كما يختص عالم المهندسين بضروب من التعبير لا تخطر في بال الصيادلة، أو الأساتذة، أو العمال، أو غيرهم من أصحاب المهن والتخصصات الأخرى.

وقد عبر الجاحظ عن هذه الفكرة أدق تعبير بقوله: “ولكل صناعة ألفاظ قد حصلت لأهلها بعد امتحان سواها، فلم تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت مشاكلاً بينها وبين تلك الصناعة ” (5) كما يتدخل في تكوين هذه الأنماط اللغوية المختلفة البيئة أو الوسط الذي ينشأ فيه الفرد ؛ فلغة أهل البادية أو الريف تختلف كثيراً عن اللغة المتداولة في الحواضر والمدن، بل قد تختلف اللغة من حي إلى حي، فتشيع في هذا الحي ألفاظ لا يعرفها أهل الأحياء الأخرى، ولا يتداولونها

وقد نبه محمد بن سلام الجمحي في كتابه طبقات فحول الشعراء على أثر البيئة في اللغة تنبهاً دقيقا ً، ولاحظ هذا الأثر في شعر عدي بن زيد، فقال عنه: “كان يسكن الحيرة، ويراكن الريف، فلان لسانه، وسهل منطقه “(6) (يتبع)

المراجع:

(1). – الإيضاح: القزويني:ص80،شرح وتعليق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني،بيروت:1391/1971

(2). مفتاح العلوم: ص95،ضبطه وشرحه نعيم زرزور،دار الكتب العلمية،بيروت:1983

(3). الأسلوبية اللسانية،أول ريشبيو شل،ترجمة خالد محمود جمعة،ص117 ” مجلة نوافذ، العدد 13،جمادى الآخرة: 1421/ سبتمبر: 2000

(4). نحو نظرية أسلوبية لسانية: ص41

(5). الحيوان:3/368

(6). طبقات فحول الشعراء:140

×