الحج مظهر من مظاهر الحب والهيام

واجبنا نحو غزة
6 يونيو, 2024

الحج مظهر من مظاهر الحب والهيام

جعفر مسعود الحسني الندوي

الحج مظهر من مظاهر العشق والهيام، ونموذج من نماذج الإذعان والانقياد، وهو كما كتب عنه العلامة أبو الحسن على الحسني الندوي رحمه الله في كتابه الشهير الذي تناول فيه “الأركان الأربعة”:

“هو بمناسكه وأركانه تمرين وتمثيل للإطاعة المطلقة، وامتثال للأمر المجرد، وسعي وراء الأمر وتلبية وإجابة للطلب، فالحاج يتقلب بين مكة ومنى، وعرفات والمزدلفة، ثم منى ومكة، يقيم ويرحل، ويمكث وينتقل، ويخيم ويقلع، وإنما هو طوع إشارة ورهين أمر، ليست له إرادة ولا حكم، وليس له اختيار ولا حرية”.

وكما كتب الأستاذ سيد قطب الشهيد: “الحج هو مؤتمر المسلمين الجامع، الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام، متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام، عرايا من كل ثوب مخيط يستر العورة، ولا يميز فرد عن فرد ولا قبيلة عن قبيلة، ولا جنس عن جنس، إن عقدة الإسلام هي وحدها العقدة ونسب الإسلام هو وحده النسب، وصبغة الإسلام هي وحدها الصبغة”.

“وهكذا يقيم الإسلام سلوك المسلمين في الحج، على أساس من التصور الذي هدى البشرية إليه، أساس المساواة وأساس الأمة الواحدة التي لا يفرقها طبقة ولا يفرقها لغة، ولا تفرقها سمة من سمات الأرض، وهكذا يردهم إلى استغفار الله من كل ما يخالف عن هذا التصور النظيف الرفيع”.

وهكذا كانت وتكون حياة العشاق المؤمنين والمحبين الصادقين، لا تخضع لعادة ولا تستجيب لشهوة، ولا تندفع لما تهوي إليه النفوس من ذنب ومعصية، وهذه هي الحياة التي ينبغي لكل مسلم أن يعيشها، حياة الإخلاص والوفاء، حياة الإيثار والفداء، حياة الحب والولاء لمن بيده ملكوت السماوات والأرض.

إن الحج وأيامه هي مناسبة مهمة لتعويد النفس على الكف عن الجدال، والامتناع عن الرفث، والاستبعاد عن الفسوق والعصيان، وهي تؤكد على الخضوع الكامل والانقياد التام لأوامر الله، وهي تدعو المسلمين إلى أن يضعوا السكين على أعناق كل ما يتعارض مع الشرعية، ويتصادم مع أحكامها، ويضحوا في سبيل الامتثال بأوامر الله بأغلى ما عندهم وأحب ما لديهم دون الانقياد للعاطفة والخضوع والبحث عن المبررات والمسوغات، حتى لا يتردد أي لحظة في ذبح أفلاذ كبدهم إذا أمرهم الله بذلك.

تعالوا نتلو تلك الآية الكريم التي تمثل ذلك الحادث الغريب الذي لم تشهد السماء مثله، يقول الأب لابنه الحبيب الوحيد) يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى( [الصافات: 102] والجواب الذي يتلقاه من ابنه هو جواب لا يصدقه العقل، فيقول الابن مخاطبًا لأبيه:)يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ( [الصافات: 102]. فهذا الحديث الذي جرى بين الأب وابنه يدعو كل أب إلى أن يسير على ذلك المنهج الذي سار عليه أبو إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وفي الوقت نفسه يدعو كل ابن إلى أن يرد على سؤال يوجه إليه حول أمر من أوامر الله عزوجل بمثل ما ردَّ به ابن إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

فإذا وقع مثل هذا الارتباط بين الأب والابن وأعضاء العائلة الآخرين في الإذعان لأوامر الله بحيث أن يضع كل عضو من أعضاء الأسرة، وكل فرد من أفراد المجتمع أوامر الله فوق كل حب، وفوق كل صلة، وفوق كل عاطفة، وفوق كل رغبة، يقع ما لا يصدقه العقل، ويشهد العالم مجتمعًا يشبه مجتمعات خير القرون في العقيدة والسلوك وأساليب الحياة.

×