أمراض المجتمع وعلاجها (8)

سقوط الدولة العثمانية؛ وقفة مع الأسباب
18 مايو, 2024

أمراض المجتمع وعلاجها (8)

الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي

اللسان نعمة من نعم الله العظيمة، ولكنها مع الأسف أكثر النعم التي لا يقدرها الناس حق قدرها، ويُسيئون استخدامها، مما يؤدي إلى فساد المجتمع وفشو الفوضى فيه، وقلة قليلة من الناس وقليل ما هم، يحرصون على انتقاء كلماتهم بعناية ويعملون بما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَن صَمَتَ نَجَا”. (سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة، باب إكرام الضيف…:2689).

فالإنسان عندما يتكلم وينطق ينسى ماذا يقول وبما يتفوه، وما العواقب التي ستترتب على كلماته، وفي الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أحكام الإسلام لمعاذ بن جبل رضي الله عنه ردًا على سؤاله، ثُمَّ قَالَ: “أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ (الراوي): فَأخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَادُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ”. (سنن الترمذي: كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة:2825)

هذا من إعجاز البيان النبوي أنه صلى الله عليه وسلم ضرب مثالًا بليغًا، شبّه فيه أثر الكلام بحصاد الزرع بالمنجل الذي يجرف النافع والضار معًا، وقال: “وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم”. والناس كثيرًا ما يلقون بأنفسهم في الهلاك وهم لا يشعرون، وهو بسبب إساءتهم استخدام ألسنتهم، فحينما يُطلق الإنسان عنان لسانه بلا تحفظ أو وعي أو ضابط، قد يكون سببًا في هلاكه ودخوله النار.

فكم من القلوب يكسرها الإنسان تكسيرًا بكلامه الجارح، وكم من البيوت يهدمها بكلماته النابية القاسية، ويزرع الفرقة بين الرجال والنساء، وينشر بذور الكراهية، ويثير الشكوك وسوء الظن، مما يؤدي إلى تفكُّك النسيج الاجتماعي بأسره، كما قال الشاعر العربي:

“جراحات السنان لها التئام

‏ولا يلتئم ما جرح اللسان”

‏فهذا اللسان هو سبب تردِّي الأوضاع وفساد الأعمال، فإذا صلح اللسان وتحسن الكلام تحسنت الأوضاع وصلحت الأعمال وغفرت الذنوب، فقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (سورة الأحزاب: 70) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ”. (صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان: 6474)

وفي الفم لسان يلقي بصاحبه في هوة الهلاك، فإن الثرثرة وكثرة الكلام بدون حاجة تسلب من صاحبها التمييز بين الحلال والحرام، لإشباع غريزته وتحقيق ما تشتهيه نفسه، وفوق ذلك يسيء استخدام اللسان ولا يتورع، فكلمة واحدة قد تدمر حياة إنسان، تسقطه من أعلى درجات العز إلى أسفل مراتب الذل، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ”. (صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان: 6478)

وعن عقبة بن عامر قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: “امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ”. (سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان:2586) وقال عليه الصلاة والسلام: “عَلَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ، فَإنَّه مَطْرَدَةٌ للشَّيْطَانِ، وَعَونٌ لَكَ عَلى أمْرِ دِيْنِكَ”. (الترغيب والترهيب:531/3)

والواقع أن فساد المجتمع يعود قبل كل شيء إلى تقصير الناس وعدم تورُّعهم في استخدام اللسان، تظهر هذه الآفة بأشكال متنوعة مثل الكذب، الغيبة، الإفك، النميمة، ونقل الأخبار، كلها من الكبائر التي تُعد خطايا على الشخص الذي يرتكبها، وهي في الوقت نفسه أدواء اجتماعية معضلة تجرُّ المجتمع بأسره إلى الفساد والهلاك والدمار. [تعريب: سعد مبين الحق]

×