جهود الطبيب جون تيتلر الإسكتلندي في نقل الكتب العلمية والطبية إلى اللغة العربية (2)

أمراض المجتمع وعلاجها (8)
3 فبراير, 2025
المنظمات الصهيونية (1)
20 مايو, 2025

جهود الطبيب جون تيتلر الإسكتلندي في نقل الكتب العلمية والطبية إلى اللغة العربية (2)

بقلم: د/صاحب عالم الأعظمي الندوي(*)

(*) باحث في تاريخ الهند وجزيرة العرب والخليج

عند وصوله إلى كلكتا عُيّن جون في البداية في المستشفى العام، وشرع في تعلُّم اللغة العربية وظلَّ يكرس جهده في الإلمام بها مدة أربعة عشر عامًا، وبدأ أيضًا في تعلُّم الطب اليوناني/العربي واشتغل في تحقيق الكتب الطبية المدونة بالعربية والفارسية، ثم انتقل لاحقًا إلى المركز الطبي المدني في مدينة بتنه بإقليم بهار في أوائل عام 1814م. وهناك، انخرط في دائرة اجتماعية وفكرية نشطة شملت علماء أوروبيين ومحليين بارزين. ومن بين أصدقائه الهندوس: ديوان كانهجي، وهو عالم هنديٌّ بارع في الرياضيات، قد ألَّف كتابًا ضخمًا يُعرف بـ”خزانة العلم” باللغة الفارسية ويقع في نحو ألف صفحة، وهو كتاب شامل عن الحساب والجبر والهندسة كما عالجها العلماء المسلمون والهندوس في العصور الإسلامية، مضافًا إليها ترجمات لأعمال أوروبية. أدرك جون قيمة هذا الكتاب، وصححه وقدَّمه لاحقًا للجنة التعليم العام في كلكتا، فنُشر جزء منه قبل أنْ يتوقف الطبع نتيجة تغيُّر أولويات اللجنة. وفي نهاية المطاف، استُكمل الكتاب بتمويل من الجمعية الآسيوية في البنغال وطبع في مطبعة الإرسالية المعمدانية بكلكتا عام 1837م، حفاظًا على مضامينه القيِّمة.

والمطلع على مقدمة الكتاب سيتعجب من الأسلوب الذي اختاره جون، وذلك العالم الهندوسي في الكتابة، إذ سيفترض لأول وهلة أنه إنما كتبها عالم مسلم متضلع من اللغتين العربية والفارسية ومتشرب بالثقافة الإسلامية. فبعد الحمد والثناء لله على نعمة التي لا تُعد ولا تُحصى، تحدث عن أهمية العلوم، بما في ذلك الرياضيات ودورها في تحسين حياة البشر وتقدم المجتمعات، وركز على ضرورة تعلم العلوم الرياضية لكونها من الأدوات الأساسية التي تساعد الإنسان على الفهم العميق للكون وللعالم من حوله وتسهم في حل العديد من المشكلات العلمية، ويرى أن الإلمام بهذه العلوم يعزز من قدرات الإنسان ويفتح أمامه آفاقًا واسعة من المعرفة والإبداع. فقد استهل جون تلك المقدمة بقوله: “بسم الله الرحمن الرحيم، رب يسر وتمم بالخير”، ثم أضاف مقطعًا شعريًا فارسيًا يعبر عن التوحيد وربوبية الله. ولعل من المناسب أن أضع ترجمته وترجمة الفقرة الأولى من المقدمة. يقول: “الحمد لله الواحد القهار، هذا العدد الذي لا يُعدّ ضمن الأعداد، لا فرد ولا زوج، والله الصمد، خالق العالم، ولم يلد ولم يُولد، جل جلاله وعظم نواله، وصلى الله عليه وعلى خير خلقه محمد وآله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فإن علم الحساب كثير المنفعة ومحتاج إليه في جميع الأمور. إن العدد هو موضوع علم الحساب، وكذلك يوم الحساب دليل دامغ وواضح على ذلك. إنه علم ذو شرف، وفي جميع العصور والعهود عرف الحكماء قيمته، وجعل العلماء والفضلاء منه أساسًا للافتخار وكنزًا لحدود الإنسانية، وذلك لتيسير المنافع المتألقة بالعزة والجلالة. إن الهيبة والإقبال في جوهره. وكل واحد منا يُسهم فيه. ليس من الممكن أن يبقى أحد غير مكترث بالقواعد الحسابية دون أن يتخذ خطوات حاسمة في هذا الميدان.”

مستلهمًا جهود ديوان كانهجي وعمله في كتاب “خزانة العلم”، انطلق جون باهتمام عميق بدراسة اللغات العربية والعبرية والفارسية والهندوستانية، بالإضافة إلى المعرفة العلمية بثقافات تلك البلاد. وأخذت جهوده مسارَين متباينَين؛ الأول: استخراج النصوص والدراسات من الكتب العربية والفارسية عن العلوم والطب وترجمتها باللغة الإنجليزية وتحقيقها ونشرها في مجلات الجمعية الآسيوية، والثاني: نقل الكتب الطبية والرياضية الإنجليزية إلى اللغة العربية. فأعدَّ بحثًا مطولًا بعنوان “تحليل الكتب الفارسية في الرياضيات وعلم الفلك مع النماذج”، اكتشف فيه معارف رياضية متقدمة لدى العلماء العرب والمسلمين كانت قد سُبقت بها بعض التطورات الأوروبية.

وفي مقال آخر عن “نظرية ذات الحدين كما عُرفت عند العرب”، أثبت جون أنَّ العلماء العرب والمسلمون عرفوا تلك النظرية من زمن بعيد، بيدَ أنَّ الدكتور هاتون نَسبَها مدلسًا إلى بريغر في عام 1600م، وقدَّم جون براهين دامغة على أنها كانت معروفة تمامًا للعرب والمسلمين في العصور الإسلامية وقبل ذلك التاريخ بكثير، وخلص إلى أنَّ هذه النظرية مذكورة في كتاب “مفتاح الحساب” الذي أُلِّف في عهد العالم المسلم ألغ بيك في نحو عام 1445م. وعالَج في ورقة علمية أخرى من الفئة نفسها ولكن بمزيد من التفصيل والشرح والبسط مما نُشرت في المجلة نفسها في المجلد السابع عشر عن ماهية استخراج جذور الأعداد الصحيحة كما قام به العرب، وشرح فيها أسلوبهم شرحًا مفصلًا وصولًا إلى الجذر السادس للعدد، كما استعرض هذه المسائل الحسابية والرياضية في صورة جدولة كانت تُعرف عند العلماء العرب باسم “الشكل المنبري”. وله مقالات أخرى في هذه الميادين، ومنها على سبيل المثال: “دراسة حول استخراج الجذر التربيعي”، و”دراسة حول استخراج الجذور عند باقر اليزدي بالقرن الثاني عشر الهجري”.

وجدير بالذكر أنَّ الاهتمام بالعلوم العربية والإسلامية لم يقتصر على المستشرقين الأوربيين فحسب، بل اهتم العلماء والأمراء الهندوس أيضًا بها أشدَّ الاهتمام، وعلى سبيل المثال، تأسست إقطاعية كبيرة في إقليم بهار خلال حقبتَي حُكم المغول والبريطانيين عُرفت باسم “إمارة تكاري”، تأثر حكامها بالثقافة الإسلامية تأثرًا عميقًا حتى أنهم تبنَّوا التقاليد والعادات الإسلامية في لباسهم ومعيشتهم. ويُذكر أنَّ الأمير ميتراجيت سينغ أحد أبرز حكام هذه الإقطاعية اهتم بتكليف العلماء بإعداد كتاب موسوعي باللغة الفارسية في فنِّ الرياضيات والفلك؛ وذلك تحت إشراف العالم الفلكي والرياضي البارع غلام حسين الجونبوري، وسماه “جامع بهادر خاني”. وقد التقاه جون في كلكتا عام 1835م وتوثقت عرى صداقتهما، وساعده جون فيما بعد في طباعة هذه الموسوعة على نفقة الحكومة البريطانية. اقتنى جون مسودة هذا الكتاب الموسوعي من صديقه غلام حسين وواصل دراساته بتحليل مضامينه العلمية ونشرها باللغة الإنجليزية في مقالات وبحوث علمية في ميدان الرياضيات والفلك. حتى بعد عودته إلى إنجلترا، واصل جون دراساته بتحليل نصوص “جامع بهادر خاني”، كما وثّق ترجمة عربية لكتاب “الأقسام المخروطية” لأبولونيوس وقدّمها للجمعية الآشمولية في أوكسفورد. وهكذا فقد نُشرت دراساته وأبحاثه في مجلات الجمعية الآسيوية في البنغال، مُظهرة إسهامات العلماء العرب والمسلمين في الرياضيات والفلك والطب التي نَسبها الغرب تقليديًا لعلماء أوروبيين.

وفي المسار الثاني، اجتهد جون في نقل بعض الكتب الإنجليزية في ميدان الطب والرياضيات إلى اللغة العربية، مما يدل على علو كعبه في اللغة العربية وآدابها، واستيعابه لألفاظها ومصطلحاتها. وأول كتاب مما نقله في هذا الفن “رسالة في تشريح القلب/الرسالة القلبية” من اللغة الإنجليزية، وكانت في الأصل مقتطفات مختارة من دليل إدنبرة الطبي، أو (Edinburgh Medical Guide)، وهو دليل شامل في فن الطب، يقدم مبادئ وإرشادات مهمة بشأن التشخيص والعلاج للأطباء والطلاب في هذا الميدان. نُشر لأول مرة في أوائل القرن التاسع عشر، وأصبح من المصادر المهمة التي استُخدمت في تعليم الطب وقتها، حيث يعرض معلومات طبية منظمة حول الأمراض وأعراضها وعلاجها. وقد نشر جون ترجمته العربية بذاك العنوان في الجمعية الآسيوية بكلكتا عام 1828م.

أما الكتاب الثاني المترجم في فنِّ الطب، فنقله من الإنجليزية إلى العربية بعنوان “كتاب أنيس المشرحين في علم الطب مع فهرس الألفاظ على ترتيب الحروف الإفرنجية واللغات العربية”، ألَّفه في الأصل رابرت هوبر بالإنجليزية لفوائد طلبة المدراس الطبية بعنوان (The Anatomist’s Vademecum). طُبعت الترجمة العربية باهتمام الجمعية الآسيوية في عام 1836م، وهو كتاب كبير يقع في نحو خمسمائة صفحة. ويجدر أنْ ننقل هنا مقتطفات من مقدمة المؤلف المترجمة؛ لنتبين لغة جون وأسلوبه في اللغة العربية، يقول: “اعلم يا أيها العزيز الذكي الفهوم الطالب فرائد نفائس العلوم، قد حاولت أنْ أنظم لك في سمط تحرير هذه الرسالة الوجيزة لآلي علم التشريح ويواقيته العزيزة، حَرِيَّة لأنْ تجعل قلائد جياد الحافظين وعقود نحور الطالبين بهذا الترتيب: أولًا أنْ أذكر الأحوال الصحيحة الموجزة لأعضاء الإنسان ومنافعها، ثانيًا: أنْ أُفهرس الأمراض التي هي تعرض لتلك الأعضاء، وأيضًا الأعمال الأسوية التي هي تُعمل باليد على بدن الإنسان، ثالثًا: أنْ أُبين طرق إحراز عضو فعضو من البدن لإظهار قوامها في حالتها الطبيعية، وفي حالة المرض بقدْر الطاقة البشرية إلى يومنا هذا، رابعًا: أنْ أُفسر أكثر اصطلاحات هذا العلم، خامسًا: أنْ أُفهرس الألغاز؛ أيْ الأسئلة التي ينبغي أنْ يكتب الطالب أجوبتها حفظًا بلا مطالعة الكتب وبعد أنْ يطالع الكتب المعتبرة لتصحيح أجوبته، وأيضًا أضفتُ إلى مقاماته العديدة عدة من قوانين المعالجات. لا تجد مؤلَّفًا جامعًا مثل هذه الصحيفة المشتملة على مقاصد خمسة مرتبة كما ذكر، فأظن أنْ تصير هذه الرسالة مُرضية مرغوبة لجمهور العلماء لعموم فائدتها ووفور عائدتها. أعظم البواعث التي حثَّتني على تأليف هذا المختصر الحري للجيب هو أني قد احتجتُ في أوان تعلُّمي هذا العلم إلى مثل هذا الكتاب احتياجًا شديدًا، فالآن أرجو أنْ يقع هذا المؤلَّف مرغوبًا للمتعلمين، وإني وإنْ لم أُضف إليه شيئًا من المضامين غير المتداولة قَطُّ، بل اقتصرتُ على ثبت المضامين التي توجد في الكتب المتعارفة المعتبرة لكن لما كانت هذه الرسالة خالية من الإطناب الممل صارت أنيسًا محبوبًا عند تعلُّم التشريح واكتسابه للطالبين.” انتهى.

×