بناء الإنسان أفضل أم بناء العمارات؟

الشاعر الألماني “ريكه” يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم
3 فبراير, 2025
إعجاز القرآن الكريم
3 فبراير, 2025

بناء الإنسان أفضل أم بناء العمارات؟

محمد الحسني رحمه الله

من المحن والأزمات التي ابتلى بها الشرق شغفه وهيامه بالبنايات الحديثة والمعاهد العلمية الفخمة التي تشبه الفنادق والبنوك، في ضخامتها وارتفاعها وأناقتها وتأثيثها، وشاع استعمال أمثال هذه الجمل: إن هذه البناية أكبر بناية حديثة في الشرق الأوسط، وإن هذا الصالون، أو هذا المدرج أو هذا المتحف، الأول من نوعه في المنطقة بأسرها، وقد سموا هذا البناء الحجري أو البناء الظاهري، بناء الوطن، بناء الجيل، بناء الحضارة، بناء الثقافة، إلى آخر هذه التعبيرات البراقة التي كثر استعمالها في الوقت الحاضر.

وقد طغى “آخر موضة” و”آخر طراز” على جميع الحقائق وأصبح “الأحدث” و”الآخر” المقياس الوحيد للنهضة والرقي، والبراعة والنبوغ، ولو كان هذا “الأحدث” أحدث الرقصات العارية، ولو كان هذا “الآخر” آخر الموضات الكريهة، والطراز الآسن القذر، وقد عمت هذه الظاهرة في أكثر البلاد الإسلامية – ولو كان نصيب البلاد العربية فيها نصيب الأسد – فهذا أكبر مسجد في العالم في إندونيسيا، وآخر في كوالالمبور، وثالث في “إسلام آباد”.

وقوي هذا الاتجاه المعماري على حساب الأصالة في العلوم، والتعمق في الدراسة، والرسوخ في العقيدة، والاضطلاع بالدعوة، وأصبحت البنايات تستهلك قوى الأمة، وتستنفد مجهودها وطاقاتها ومكاسبها، وأموالها وعقولها، لا تستطيع عنها حولاً، ولا تبغى بها بدلاً، لأنها آخر طراز وآخر ما قدمه الفن المعماري الحديث، والأولى من نوعها في آسيا “وذلك مبلغهم من العلم”.

هذا في محيط البنايات، أما في محيط الإنسان فلم نسمع في – عرض العالم الإسلامي كله – من يقول في نفس التعبير، وفي نفس القوة والاعتزاز، هذا أكبر عالم في الشرق، وهذا أكبر طبيب في آسيا، وهذا أكبر مهندس في العالم الإسلامي، وهذا أكبر كيميائي في المنطقة بأسرها، وهذا أكبر ضابط وأعلمهم بفنون الحرب في البلاد العربية كلها.

ولم نسمع من يقول: هذا ابن تيمية هذا الزمان في العلم والبرهان، أو صلاح الدين هذا العصر في المجد والسلطان.

وقد سمعنا أمثال هذه الدعاوي الفارغة بعض الأحيان، وقيل لنا: إن القوة الفلانية أكبر قوة جوية ضاربة في الشرق الأوسط، وإن أسطول الدولة الفلانية أقوى أسطول في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، إلى أمثال هذا الهراء الذي يعرفه الجميع، ولكنها كانت دعاوي فارغة كاذبة ظهر بطلانها في حرب 5 حزيران، وكان كما قال الشاعر، وكأنه يصف هؤلاء الغوغائيين الاشتراكيين.

ستعرف حين ينكشف الغبار

أفرس تحت رجلك أم حمار؟

إن كثرة البنايات والفنادق – يا قادة العالم الإسلامي – لا تنجب الرجال ولا تنتج الكفاءة والمقدرة، والنبوغ والبراعة، والعلم والتقوى، إنها – بالعكس – تلهي الأمة عن المكرمات والبطولات، إنها تستنفد قواها، وتشغل بالها، وتصرفها عن غاياتها السامية، وأهدافها العالية، وتجعلها في قفص ذهبي تجد فيه كل ما يحتاج إليه جسدها من عيش رغيد، وتفقد كل ما يحن إليه طائر الروح من حرية للخروج وأجواء فسيحة للطيران تزكي جوهرها الأصيل وترخي لها العنان.

إن بناء الإنسان لا يحتاج إلى بناية ولا يحتاج إلى دعاية، بل إنه يحتاج – فقط – إلى تصحيح الاتجاه، وتنوير الوعي، وتنمية الشعور، والعناية بالأولى والأهم، والتركيز على النواحي المهمة الحساسة، وتقوية الجانب الذي تضاءل واضمحل وضعف، بدلاً من تغذية الجانب الذي تسمن وتضخم، وطغى وبغى على الجانب الضعيف.

إن مثلنا في ذلك كمثل رجل نزل عنده ضيف اشتد به الجوع فاعتنى بغرفته كل العناية، وأثثها تأثيثًا جميلاً، وحشد له كل ما لا يحتاج إليه من كماليات، ومع ذلك فلم يقدم إليه وجبة طعام، أو كأسًا من ماء.

أو كمثل رجل أتاه مريض يشكو ألمًا في القلب، أو وجعًا في الصدر فهداه إلى مساحيق التجميل أو استعمال الملابس الفاخرة.

لقد عنينا – كثيرًا – بالبنيان، فلنتجه الآن إلى الإنسان!!. (مجلة البعث الإسلامي، أكتوبر 1968م)

×