إعجاز القرآن الكريم

بناء الإنسان أفضل أم بناء العمارات؟
3 فبراير, 2025
جهود الطبيب جون تيتلر الإسكتلندي في نقل الكتب العلمية والطبية إلى اللغة العربية (1)
3 فبراير, 2025

إعجاز القرآن الكريم

العلامة شبلي النعماني

تعريب: حسيب الرحمن مجيب الندوي

“فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ” [البقرة: 23]

ما زال العالم الإسلامي يردد منذ ما يقارب 13 قرنًا من الزمن أن القرآن الكريم كلام معجز لا مثيل له، وقد اتفقت على هذه القناعة جميع الطوائف الإسلامية بما فيهم السنة والشيعة والمعتزلة والأشعرية والماتريدية اتفاقا لا خلاف فيه، ولكن إذا يطرح سؤال ما هي الخصيصة التي تجعل القرآن الكريم معجزة؟ فإذا بكل هذه الطوائف تختلف آراؤها وتتباين دفعة واحدة في تحديد جوهر هذا الإعجاز. فمنهم من قال بأنه يحتوي على نبوءات تفوق قدرات البشر، ومنهم من رأى أن الإتيان بمثله ممكن في الأصل ولكن الله تعالى يمنع من يريد ذلك، واعتبر آخرون أن إعجاز القرآن الكريم في كشفه للناس عما كانوا يضمرونه في صدورهم، إلى أن اتفق العالم بأسره على ما ذهب إليه الأشاعرة من أن استحالة الإتيان بمثيل للقرآن الكريم ترجع إلى فصاحته وبلاغته، الأمر الذي يثبت أنه كلام إلهي، وليس كلام بشر.

لسنا هنا بصدد مناقشة ما إذا كانت فصاحة الكلمة وقوة التعبير وبلاغة الكتابة خصائص تليق بأن تعد إنجازا كبيرا لله جل وعلا، وإنما المثير للاستغراب هو أن هذا الموضوع ظل خاضعا للمناقشة والبحث والدراسة خلال هذه الفترة الطويلة الممتدة لثلاثة عشر قرنا، وظلت الآراء تختلف باختلاف المدارس والمذاهب، ومع ذلك لم يخطر ببال أحد أن يرجع إلى من ادعى نفسه هذا الإعجاز بغية تحديد الخصيصة التي تجعله معجزة؟ علما بأن القرآن الكريم هو نفسه ادعى هذا الإعجاز، فكان هو الأولى أن يرجع إليه ردا على السؤال.

ينبغي لنا أن نتأمل عندما يقول الله سبحانه وتعالى عن القرآن الكريم “فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا” [البقرة: 24] ما هي صفات المدح التي يصف بها الله تعالى القرآن الكريم في مواضع كثيرة منه؟ لقد وصف الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بصفات مختلفة متعددة متكررة، فمثلا يقول:

  1. “وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ” [يس: 2].
  2. “وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ” [ص: 1].
  3. “كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ” [هود: 1].
  4. “كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ” [المؤمنون: 62].
  5. “كِتَابٍ مُبِينٍ” [النمل: 75].
  6. “وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ” [البقرة: 185].
  7. “هُدًى لِلْمُتَّقِينَ” [البقرة: 2].
  8. “جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا” [الشورى: 52].
  9. “هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ” [لقمان: 3].
  10. “تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ” [الزمر: 23].
  11. “كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” [فصلت: 3].
  12. “بَشِيرًا وَنَذِيرًا” [البقرة: 119].
  13. “يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ” [الأحقاف: 30].
  14. “تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى” [طه: 3].

تدبروا كيف أن الله سبحانه وتعالى عندما مدح القرآن الكريم وصفه بصفات متعددة، منها أنه ذو الذكر، وهدى، وبشير، ونذير، ونور، وحكيم، وما إلى ذلك من الصفات، إلا أنه لم يذكر في هذه الصفات فصاحة القرآن الكريم وبلاغته ولا مرة واحدة، فقد ترك الشيء نفسه الذي أصبح (في نظر الناس) محور الإعجاز القرآني فيما بعد. فهل يمكن لأي كتاب آخر أن يضاهي القرآن الكريم في الهداية والحكمة؟ فإن لم يكن كذلك، فلماذا لا تكون هذه الصفات نفسها هي محور الإعجاز القرآني، بدلا من أن يصير ما لم يذكره القرآن الكريم صراحة ولو لمرة واحدة؟

لا يعني ذلك أنه من الممكن وجود مثيل للقرآن الكريم في الفصاحة والبلاغة وقوة التعبير، مستحيل ذلك يقينا، ولكن هل تكمن معجزة الكتاب السماوي في كونه هاديا للعالم أم في تعبيره الإنشائي ونثره الفني؟ لا شك أن الهداية هي الأجدر بأن تكون موطن الإعجاز. ولتقريب المعنى نقول إن سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام لم يكن له مثيل في جمال الظاهر، ولكن عندما نذكره كنبي من أنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام هل نذكر من صفاته جمال الباطن والنفس القدسي أم نركز على قسماته وأساريره؟ لكننا في واقع الأمر لا نحتاج إلى هذه الدلائل والمقارنات، فقد كفانا القرآن الكريم نفسه ببيان صريح بأنه معجزة من حيث الهداية، إذ لا يمكن لأي كتاب آخر أن يماثل القرآن الكريم في هذا الجانب باستثناء الكتب السماوية. فقد قال تعالى:

“قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” [القصص: 49].

ثمة نكتة تجدر بالملاحظة هنا وهي الفصل الحاسم لهذه القضية. إن المعجزة يمكن أن تقسم قسمين، قسم يرتبط بالنبوة ارتباطا مباشرا، وقسم آخر يكون دليلا على النبوة لا بذاته بل من خلال دلالته على قدرة الله تعالى. لنفترض شخصا يدعي النبوة فيقول: أرسلني الله تعالى لهداية العالم، فيسأله الناس ما دليلك على النبوة؟ فيجيب: أجعل العصا تتحول حية، ويدي تضيء بيضاء كالقمر، فعندئذ يتساءل الناس ما العلاقة بين هذه المعجزة وبين الهداية والنبوة؟ فيرد قائلا: هذه المعجزة التي أظهرها لا يقدر عليها أحد غير الله سبحانه وتعالى، وعليه فهذه المعجزة التي أظهرها إنما هي من عند الله عز وجل، وأنا مبعوث منه، ومن يبعثه الله تعالى فهو نبي مرسل. فهذا النوع من الاستدلال لا يثبت ارتباط المعجزة بالنبوة ارتباطا مباشرا، بل يثبتها بطريقة غير مباشرة عبر دلالتها على وجود تدخل إلهي.

ولنفترض شخصا آخر يدعي النبوة، فيسأله الناس كيف؟ فيجيب قائلا: إن النوع من الهداية والتزكية التي أقدمها للناس لا يقدر عليها بشر آخر. في هذه الحالة، إذا كانت دعوته صحيحة فإنها في حد ذاتها معجزة وهي كذلك من خصائص النبوة، لأن التزكية من خصائص النبوة. لتوضيح هذه الفكرة بمثال آخر، نفترض شخصا يدعي أنه يعرف اللغة الفارسية، ويستدل على ذلك بأنه إيراني، حيث يستحيل أن يكون إيرانيا ولا يعرف الفارسية، وعلى عكسه إذا ادعى شخص آخر نفس هذا الادعاء، ولكن عبر عنه باللغة الفارسية نفسها. فهذا الادعاء بذاته يصبح دليلا على صحته في ذات الوقت، لأن اللغة الفارسية جزء من هويته، فقدرته على التعبير بها يصبح دليلا على صدق دعواه.

فلو اعتبرنا القرآن الكريم معجزة من حيث فصاحته وبلاغته فإن هذه المعجزة لا تكون من ميزات النبوة، ذلك لأن التعبير والتحبير ليسا من لوازم النبوة، ولكننا لو اعتبرنا القرآن الكريم معجزة من حيث تزكية النفس والموعظة والحكمة فإنها تصبح معجزة حقيقية لأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بخصائص النبوة.

“فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا ا لضَّلَالُ” [يونس: 32].

×