وزين لهم سوء عملهم (1)

يعلمه الله
1 فبراير, 2024
الإسراء والمعراج
14 مارس, 2024

وزين لهم سوء عملهم (1)

أشرف شعبان أبو أحمد (الإسكندرية، مصر)

هناك من يرون أعمالهم على عكس ما هي عليه، حيث يرون ما يقومون به من شر خيرا محضا، ومن جور إنصافا صرفا، ومن ضلال هدى خالصا، ومن سيئة حسنة صريحة، بل ويرونها أفضل مما يقوم به غيرهم، وما هم عليه من قوة وثراء وجبروت، لأكبر دليل على ذلك، سواء كانت أعمالهم هذه في مجال العقائد والإيديولوجيات أو في مجال مقتضيات الحياة ومتطلبات المعيشة، وكل ما يعملونه من عمل، يحسبون أنهم محسنون في صنعه، وأنهم على شيء من الحق، قال تعالى في سورة المجادلة آية 18 (ويحسبون أنهم على شيء) بل من هؤلاء أيضا من يفسد في الأرض ويسفك فيها الدماء، ويعتقد أنه يفعل الصواب، بل ويعتقد بأن ما يقوم به هو من مصاف الأمور العظيمة والمهمة. ويا لها من انتكاسة في العقل والفكر، وزوغان في البصر، أن يظن المبطل أنه محق، والمخطئ أنه مصيب، والضال أنه مهتد، وأن يرى قبيح عمله روائع يجب إن يشدو بها، قال الله تعالى “قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا” [الكهف: 104] نزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإنها تنطبق على كل فرد أو جماعة من أبناء أمة الإسلام، أو من غيرها من الأمم، طالما حادوا عن الصواب وانقادوا للشيطان، وأطاعوه فيما يزينه ويحسنه لهم من أعمال وما يسبقها من فكر وعزم، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، بل وعلى هدى أيضا، قال تعالى في سورة الأعراف “إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون” [الآية: 30] فليس من كان على بصيرة من ربه، يميز بها بين الحق والباطل، وبين الصواب والخطأ، وبين الرشاد والغي، كمن زين له الشيطان سوء عمله فرأى السيئة حسنة والباطل حقا، واتبع ما تمليه عليه أهواؤه، قال تعالى “أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم” [محمد: 14].

بداية تزيين الشيء يعني: تحسينه وتجميله في عيون من يراه، وما يتبع ذلك من ترغيب النفس فيه وإقبالها عليه، فمن الناس من حسن لهم أعمالهم السيئة فرأوها حسنة، وحببت إليهم، فاستمروا على فعلها، ويرتكبون ما يرتكبونه من قبائح، ظنا منهم أنها محاسن، وما هذا إلا لمشيئة الله عز وجل، فهو وحده الذي يضل من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته، قال تعالى “أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء” [فاطر: 8] وقال جلا وعلا في سورة النمل “إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم” [الآية: 4] فالله عز وجل بين لعباده السيئ من الحسن وعرفه لهم، فإن هم اختاروا القبيح وأحبوه ورضوه لأنفسهم، زينه سبحانه وتعالى لهم، وأعماهم عن رؤية قبح أعمالهم، عقوبة لهم. وكل ظالم وفاجر وفاسق لا بد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحا، فإذا تمادى فيه، ارتفعت رؤية قبحه من قلبه، فرآه حسنا عقوبة له. قال عز وجل “كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم يرجعون فينبئهم بما كانوا يعملون” [الأنعام: 108] أي زينا لكل أمة عملهم، من الخير والشر، والطاعة والمعصية، ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم ويجازيهم بما كانوا يعملون، ولا يمكن لبشر مهما أوتي من الفطنة والذكاء، والعلم والفهم، أن يحيط علما، بحكمة الله تعالى في خلقه وأمره، وقضائه وقدره، ولقصور مدارك البشر، تجدهم يحسبون أعمالهم السيئة حسنة. وعلى الجانب الآخر فقد حبب الله تعالى الإيمان وزينه في قلوب عباده الذين آتاهم رشدهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، قال تعالى “ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون” [الحجرات: 7]

وللشيطان دور في تزيين الأعمال، قال تعالى في سورة الحجر “قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منه المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين” [الآيات: 39–42] قال إبليس: لأحسن لهم في الأرض حب الدنيا وإيثارها على الأخرى، وأحبب الشهوات إلى نفوسهم حتى يتبعوها، ولأزين لهم المعاصي والسيئات، وأحسن لهم القبيح، وأجمل لهم المنكر، وأصرفهم عن طاعتك، ولأعملن على إضلالهم إلا عبادك منهم المخلصين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن إبليس قال يا رب وعزتك وجلالك لا أزال أغوي بني آدم مادامت أرواحهم في أجسامهم فقال الرب وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني” وهذا إصرار من الشيطان على غوايته للناس أجمعين، إلا عباد الله المخلصين منهم، ويقابله من المولى عز وجل مغفرة لمن تاب وأناب وعاد إلى ربه مستغفرا. وقال عز وجل “وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون” [الأنعام: 43] وقال “وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم” [الأنفال: 48] وقال “وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون” [النمل: 24] وقال تعالى “أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا” [فاطر: 8] والشيطان ليس له سلطان على الذين آمنوا، إنما سلطانه على الذين يتولونه، قال تعالى “إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون” [النحل: 99–100].

والكفر هو أسوأ السوء، وهو مع سوئه مزين لأصحابه، فما أعظمه من ضلال، وما أشده من انحراف واعوجاج، حين يكون أسوأ السوء، وأقبح القبح، وشر الشر، حسنا في نفس صاحبه، قال تعالى في سورة الأنعام “كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون” [الآية: 122] ويزين الشيطان أعمالهم لهم، حتى يستحسنوها ويروها حقا، ويصير ذلك عقيدة في قلوبهم، وصفة راسخة ملازمة لهم، فيرضوا بما هم عليه من الشر والقبح، وقال تعالى “زين للذين كفروا الحياة الدنيا” [البقرة: 212] حسن لهم الحياة الدنيا وما فيها من الشهوات والملذات، وما فيها من متع زائلة، وملذات منقطعة، وأحبوها وتهافتوا عليها، تهافت الفراش على النار، وصارت متعها وشهواتها كل تفكيرهم، زينت لهم في أعينهم وقلوبهم، فرضوا بها واطمأنوا بها، وصارت أهواؤهم وإرادتهم وأعمالهم كلها، لها فأقبلوا عليه، وأكبوا على تحصيلها، وعظموها وعظموا من شاركهم في صنيعهم، وقال تعالى “بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل” [الرعد: 33] أي زين للكافرين مكرهم وما هم عليه من ضلال وصد عن إتباع طريق الرسل، وقال تعالى “ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون” [الأنعام: 43] وقال تعالى “تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك وزين لهم الشيطان أعمالهم” [النحل: 63] لقد أرسلنا رسلا إلى أمم كثيرة من قبلك واستحوذ الشيطان على نفوس هؤلاء المرسل إليهم، وحسن لهم ما عملوه من الكفر والتكذيب وعبادة غير الله، وصار وليهم في الدنيا فأطاعوه واتبعوه وتولوه، وجعلهم يقفون من رسلهم موقف المكذبون لأقوالهم، المعرضون عن إرشاداتهم، المحاربون لدعواتهم، وزين لهم أفعالهم السيئة القبيحة وأعمالهم الخبيثة، وكل ما كانوا يعملونه من المعاصي ويأتونه من الشرك، وزعموا أن ما هم عليه هو عين الصواب، وهو الحق المنجي من كل مكروه، وأن ما دعت إليه الرسل فهو بخلاف ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، زين لقوم إبراهيم عبادة الأصنام ولقوم لوط فعل الفاحشة ولقوم شعيب الغش في الكيل والميزان، ولقوم عاد وثمود ما كانوا عليه، قال تعالى “وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل” [العنكبوت: 38] وقال تعالى في سورة النمل على لسان الهدهد في وصف حال ملكة سبأ “وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم” [الآية: 24]. وفرعون رمز الطغيان البشري، ومثل لأشد أنواع الكفر، الذي ادعى الربوبية لنفسه، حين قال: ما علمت لكم من إله غيري، زين له حين عتا وتمرد قبيح عمله فرآه حسنا، وصد عن سبيل الحق، وإيهام الناس أنه محق وموسى مبطل، قال تعالى “وكذلك زين لفرعون سوء عمله” [غافر: 37]. فعاقبه الله وجنوده بالغرق، وجعل بدنه عبرة إلى يوم الدين لمن على شاكلته من البشر.

ومن صور تزيين الشيطان للأعمال، ما كان عليه العرب في الجاهلية من تحريم أربعة أشهر من السنة عددا لا تحديدا، بأسماء الأشهر التي حرمها الله، فيؤخرون بعضها أو يقدمونه، ويجعلون مكانه من أشهر الحل ما أرادوا حسب حاجتهم للقتال، وقد وصف القرآن الكريم فعلهم هذا بأنه زيادة في الكفر، يضل به الشيطان الذين كفروا، قال تعالى “إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين” [التوبة: 37] ومن تلك الصور أيضا، قوله عز وجل في سورة الأنفال “وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب” [الآية: 48] أي واذكروا حين حسن الشيطان للمشركين ما جاؤوا له وما هموا به، وقال لهم لن يغلبكم أحد اليوم، فإني ناصركم، فتهيأوا لذلك، ولما تقابل الفريقان المشركون ومعهم الشيطان، والمسلمون ومعهم الملائكة، نكص الشيطان على عقبيه مدبرا، وقال للمشركين إني براء منكم، إني أرى ما لا ترون من الملائكة الذين جاؤوا مددا للمسلمين، إني أخاف الله، فخذلهم وتبرأ منهم، وذهب ما حسنه لهم هباء منثورا. وفي مقام آخر قال تعالى “بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء” [الفتح: 12] وزين لهم الشيطان أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، فقد توهموا أن الرسول والمؤمنين سيقتلون على يد أعدائهم، ولن يعودوا إلى أهليهم أبدا، وهذا الظن الفاسد في قلوبهم وتمكينه من نفوسهم، جعلهم يقبعون في ديارهم، ويعتذرون اعتذارا كاذبا بانشغالهم بأموالهم وأهليهم، وتعمدوا الكذب وتفوهوا بالكلام الذي لا تؤيده قلوبهم، وقد ذمهم الله وتوعدهم بسوء المصير لظنهم هذا، وقال تعالى فيمن زين لهم الشيطان قتل أولادهم ظلما وعدوانا، وقالوا في هذا قتل البنت خشية العار، وفي قتل الولد خشية الحاجة والفقر، قال عز وجل في سورة الأنعام “وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم” [الآية: 137] فنهاهم الله عن ذلك، وقال “ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم” [الأنعام: 151]. يتبع

×