70 عاماً على “الناتو”.. ألمانيا تحذر من المساس بالحلف
22 ديسمبر, 2019تنمية الثقة هي حاجتنا الأساسية
27 يناير, 2020وسائل القوة و إمكانيات الانتصار
إن حياة المسلمين أصبحت مرة أخرى تحتاج إلى أن تكون حياة شظف وجهد وكفاح، وإن العزة والمناعة التي تمتعوا بوجودها عندهم قروناً قد فارقتهم منذ زمان مع أنهم في أشد حاجة إلى عودتها إليهم، فإن الأمم لا تستطيع أن تعيش عزيزة شريفة بدون أن يكون فيها المناعة والقوة، وهما لا تحصلان إلا بالجد والشظف، لا بالرفاهية واللذة .
لقد كان المسلمون في تاريخهم الأسبق غير راضين بأن يكون غيرهم أئمة البلاد والعباد، بل إنما كانوا قادة في الأمم يخطون للعالم طرق سيره في الحياة، ويهدونه للمنهج الرشيد الذي اختاروه وارتضوا به، والذي لا يوصل أحداً إلا إلى الخير الدائم و العزِّ الخالد، ولقد علمت الإنسانية وعرفت منهم ذلك، وأحبته وأقبلت عليه إقبالاً عظيماً من قلوبها ونفوسها، وكان ذلك لا لخوف منها لقوتهم، ولا لكراهية منها لسلطانهم ، فإنما يدل تاريخ فتوح المسلمين ودخولهم في البلاد المغزوة على أنهم داموا محبوبين في نفوس الشعوب المفتوحة كلما غادروها ودعتهم الشعوب بدموع من عيونها وصور رائعة من التقدير لهم من قلوبها .
وكان ذلك بفضل الرسالة الخالدة الماجدة التي كانوا يحملونها إلى كل بلد يذهبون إليه، وبفضل الروح الإنسانية الفاضلة التي كانوا يملكونها في كل جهدهم ومعاملتهم، وبفضل ذلك الإيثار الذي كان يتسم به كل عملهم، كانوا يرون إلى المنافع الخسيسة بنظرة ازدراء واستخفاف، وكانوا ينظرون إلى المال كمجرد وسيلة من الوسائل، قد يستعاض عنه غيره، وكانوا يعقدون بعلو النفس والتضحية للهدف كل اهتمامهم، فقد علموا أن وسائل القوة و إمكانيات الانتصار لا تجدى أبدًا ما دام لا يكون قلب الإنسان مليئاً بالهمة النزيهة السامية، وما دام لا يكون نظره أسمى من أن يستهويه زخارف اللذة ومظاهر الجمال الزائف، فكانوا متحلين بالعظمة الإنسانية والنزاهة الفاضلة، فكانوا قادة لا مقتدين، وكانوا هداة غير منحرفين، كانوا رجالاً يعملون إذا قالوا، ويفون إذا عاهدوا، يفضلون الموت مع الكرامة على الحياة مع الذل والمهانة، ولكننا نحن أخلافهم الذين ناموا من بعدهم نوماً طويلاً، فانتهزت الشعوب الأخرى الفرصة السانحة، ونفضت من جوانبها غبار التخلف والكسل، وكسبت التقدم والازدهار في مجال القوة والإمكانيات المادية، ألم يكن لازماً إذن للمسلمين عندما استيقظوا من نومهم أن ينهضوا ويجدوا، ويسابقوا الشعوب القوية في مضمار كسب القوة، وكسب الإمكانيات واستغلالها لخير الإنسانية لأن كل ذلك في الأصل تراثهم القديم، وهم أحق باستعادتها لا أن يغفلوا عنها فتلهوا بمظاهر الحياة الخلابة التي بهرت نفوسهم وأبصارهم، والتي استعملتها أوربا كوسيلة إغراء وخداع وتلهيتهم عن العكوف على ما ينفعهم نفعًا جديًا لائقًا في دنياهم و دينهم .
ولكن مع ذلك يجب على المسلمين الفهم والتعقل حتى لا تطول عليهم مدة مسكنتهم و زوالهم، ولا يمكن العمل بكل ذلك إلا بالعودة إلى الطرق التي جربها أسلافهم، وكسبوا بها كل عزة وفائدة، وهو تجريد الحياة أولاً وتطويعها لمناهج الجد والشظف، والتضحية وروح الطموح، وسمو النفس، واختيار مظاهر الرجولة والجد والصرامة، فإنما لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها .
محمد الرابع الحسني الندوي