الإسراء والمعراج
5 مارس, 2023خصائص التشريع الإسلامي في الصوم
2 أبريل, 2023بركات الإيمان
فضيلة الشيخ محمد محمد المدني
يقول الله عز وجل
“وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى امَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ” [الأعراف: 96].
وحين يقول القرآن الكريم لو حصل كذا لكان كذا، فإنما يُحدِّث عن سُنّة من سنن الله الكونية التي لا تتبدل ولا تتحول، كما لو قال قائل: إننا إذا ألقينا بحجر في الماء غاصَ في أعماقه، أما إذا ألقينا فيه بقطعة من (الكاوتوشوك) فإنها تعوم ولا تغوص إن الحياة كلها قوانين وسُنَن إلهية من هذا القبيل، وتارة تكون القوانين والسنن مادية يعرفها المشتغلون بالعلوم الكونية، وتارة تكون اجتماعية يُدركها الدارسون لأحوال الأمم، ومظاهر الاجتماع البشري، فالله سبحانه وتعالى- يُعرِّفنا في هذه الآية الكريمة بقانون من قوانين الاجتماع والمجتمعات، فينبئنا أن المجتمع المؤمن التقي يفتح الله عليه ألواناً من بركات السماء والأرض، وأن المجتمع المكذب المتمرد على الله يؤخذ بالتضييق والبأساء جزاء بما يكسب.
وهذه السُّنة الإلهية في القرآن الكريم بالنسبة لكل هداية جاء بها الكرم الإلهي على الناس، فالله – تعالى – يَذكُرها في قصة آدم أبي البشر حين أهبطه إلى الأرض:
“وقُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِني هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ” [البقرة: 38].
“قَالَ أَهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَكُم مِّنِي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى فَلا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَتُنَا فَنَسِيتَها وَكَذَلِكَ اليو وَكَذَلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِ رَبِّهِ، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى” [طه:123-127].
والله – تعالى – يذكرها في شأن هداية التوراة والإنجيل فيقول:
“وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنهُم أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ” [المائدة:66].
بل إن الله – تعالى – أجرى الحديث عن هذه السُّنة الإلهية على لسان خلقه الخفي الذي نؤمن بوجودهم ولا نعرف كُنههم ولا نشاهد عالمهم، وهم الجن، إذ يقول:
“وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُم مَّاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُم فِيهِ” [الجن: 16-17].
أي: لنختبرهم.
“وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْر رَبِّهِ يَسْلُكُهُ عَذَابًا صَعَدًا” [الجن:17].
أي: شديدا.
فهذه الآيات الكريمة كلها متضافرة على تقرير هذا القانون الإلهي في شأن الاجتماع البشري؛ إن الإيمان الصحيح ودين الحق جلب لسعادة الدنيا ونعمتها بالحق والاستحقاق، وإن التكذيب والبطر والإعراض أسباب الشقاء في الدنيا، تجرُّ على أصحابها كثيرًا من الاضطراب والفساد.
ولكن ما هي بركاتُ الإيمان؟ وما هو الإيمان الذي تترتب عليه هذه البركات؟
إن تحديد المراد الشرعي من هذا وذاك يُقيّد الناس ويعصمهم من الغرور والتردي في مهاوي الخديعة والأوهام، إن (البركة) هي الزكاة والنماء وثبوت الخير الإلهي في الشيء، وقد وصف الله بها كتابه الكريم حيث يقول:
“كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ” [ص:29].
“وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ” [الأنعام:92].
ووصف به الليلة التى أنزل فيها هذا الكتاب حيث يقول:
“إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ” [الدخان:3-4].
ووصف بها رسوله عيسى ابن مريم حيث يقول:
“وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا” [مريم: 31-32].
بل وصف بها نفسه جل جلاله إذ يقول:
“تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا” [الفرقان:1].
“فتبارك اللهُ أَحْسَنُ الخلقِينَ” [المؤمنون: 14].
“تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” [الملك: 1].
“ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَلَمِينَ” [غافر: 64].
ويتبين من هذا أن (البركات) ليست مجرد هبات إلهية تمنح أو يحابي بها بعض خلقه دون بعض على غير أساس من الاستحقاق والحق، وإنما هى عطايا وهبات لمن يستحقونها، فهي تنبثق وتتولد من عمل العاملين وإخلاص المخلصين، وتقوى المتقين.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما نقص مال من صدقة”(1)، والقصد أن هذا المال الذي يعرف صاحبه حق الله فيه، ويخرج منه صدقته، لا ينقص بإخراج هذه الصدقة منه نقصا معنويا وإن نقص نقصا حسيَّا؛ لأن الشأن فيمن يحرص على أداء زكاة ماله أن يكون تقيا بارا بمجتمعه رءوفا رحيما بالفقراء والمساكين، إذا كان ما يفعله ابتغاء مرضاة الله، وذلك يجعله محبوبًا، ويجعل الناسَ يحرصون على ما ينفعه وعلى أن يدفعوا عنه كل ما في إمكانهم أن يدفعوه من السوء، فيكون قد استفاد بما قدَّمه فى الدنيا “وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وابقى” [القصص: 60].
والإيمان الذي ترتبط به البركاتُ ليس هو الدعوى الانتسابية التي لا يقوم عليها دليل من العمل والسلوك.
إن كثيرًا من الناس يقولون: نحن مؤمنون ولكن الأعمال هي التي تصدق هذا القول أو تكذبه.
إنه لا يتفق مع الإيمان أن تكون القلوب ممتلئة بالحقد، منطوية على الغل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنكم لن تؤمنوا حتى تحابوا”(2).
ولا يتفق مع الإيمان أن تؤثر على الله ورسوله أحدًا أو شيئًا، سلطانا، أو جاها أي: أن تؤثر الباطل على الحق، والفساد على الصلاح، والاستقامة على الاعوجاج والالتواء، فإن الله هو الحق، وهو العدل.
وقد زعم قوم من الأعراب أنهم آمنوا لمجرد أنهم نطقوا بالشهادتين، وقد علم الله ما في قلوبهم من الفساد، فلم يقبل منهم هذه الدعوى، وذلك حيث يقول:
“قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ” [الحجرات: 14-15].
فبين بذلك أن المظهر لا يُغني عن المخبر، وأن الله تعالى – لا يَرُوجُ عليه ما يَرُوجُ على الناس من الخديعة؛ لأنه هو العليم بذات الصدور، وفى أمثال هؤلاء أيضا يقول الله عز وجل:
“إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [المنافقون: 1-2].
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ألين شيء في هذا الدين وأصعبه، فقال: “إن ألينه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأصعبه الأمانة”(3).
فدلَّ بذلك على أن الدين صبرٌ واحتمال وأداء لحقوق الله وحقوق الناس، وليس مجرد شهادة يتلفظ بها اللسان.
لهذا لا يمكن أن ترتبط (البركات) بالدعاوى الهينة، وفي النفس ما فيها، وفي التصرفات والسلوك ما يُنافيها.
فإذا سألني سائل: ماذا ترى في المدنية الغربية وما فيها من الزينة والمتاع مع الانحراف عن مقتضيات التدين والإيمان الصحيح ؟ فإني أقول له: إن هذا من قبيل المتاع الذي يتلوه الخراب والعذاب الأليم، وذلك أن الله – تعالى – يقول في شأن نبيه نوح ومن معه:
“قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ” [هود:48].
فكل مدنية لا تقوم على الإيمان ورعاية مقتضياته، لا بد أن تنتهي إلى مصير مظلم، وعذاب للشعوب مؤلم، وها هي ذي مدنية الغرب المادية العمياء تتخبط مجتمعاتها في مهاوي الرذيلة، مما يُؤذن بسوء المصير، وصدق الله العظيم إذ يقول:
“وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ” [الرعد: 31].
الهوامش:
(1) المعجم الأوسط، للطبراني، 2/374، برقم: 2270.
(2) السنن الكبرى للنسائي، عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – بلفظ : لن تؤمنوا حتى تحابوا، ح رقم: (5928). المستدرك على الصحيحين، للحاكم، عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – بلفظ: “لن تؤمنوا حتى تحابوا”، ح رقم: (7310).
(3) أخرجه البزار في مسنده (761) من حديث علي، بنحوه.