“وقعة جَلُولاء” (2/الأخيرة)
23 ديسمبر, 2021«طوفان الأقصى» تكشف الوجه القبيح لوسائل الإعلام الغربي
31 أكتوبر, 2023الأندلس
الدكتور راغب السرجاني
هي معبر الحضارة الإسلامية الرئيسي والجسر الأهم في عملية انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوربا، وذلك في شتّى المجالات العلمية، والفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، وقد بقيت الأندلس – وهي جزء من أوربا – مدة ثمانية قرون (92 – 897هـ / 811 – 1492م) منبر إشعاع حضاري خلال وجود المسلمين فيها، وحتى أثناء ضعفها السياسي، وظهور دول ممالك الطوائف، وذلك بوساطة جامعاتها، ومدارسها ومكتباتها، ومصانعها وقصورها وحدائقها، وعلمائها وأدبائها، حتى غدت محط أنظار الأوربيين التي كانت على صلات وثيقة ومستمرَّة ببلدانهم(1).
فما إن استقر المسلمون في إسبانيا حتى تَفَرَّغُوا للعلم، وانصرفوا إلى العناية بالعلوم والآداب والفنون، وقد فاقوا في ذلك ما وصل إليه إخوانهم في المشرق من تَقَدُّم، وابتكروا الجديد والعظيم في كل العلوم؛ وهو ما أتاح لأوربا موردًا عَذبًا ظَلَّت تنهل منه منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي حتى النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر.
يقول جوستاف لوبون (Gustav Lebon): “ولم يَكَدِ العرب يُتِمُّونَ فتح إسبانيا حتى بدءوا يقومون برسالة الحضارة فيها؛ فاستطاعوا في أقل من قرن أن يُحيُوا مَيِّتَ الأرضين، ويُعَمِّرُوا خراب المدن، ويُقيموا فخم المباني، ويُوَلِّدُوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرغون لدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان واللاتين، ويُنشِئُون الجامعات التي ظَلَّتْ وحدها ملجأ للثقافة في أوربا زمنا طويلاً”(2).
وقد كان لسياسة التسامح الإسلامي أثرها العظيم في نفوس أهل الذمة؛ من اليهود والنصارى؛ حيث أقبل المستعربون الإسبان على تعلم اللغة العربية واستخدامها في حياتهم، بل فَضَّلُوها على اللاتينية، كما تتلمذ كثير من اليهود على أساتذتهم العرب.
وقد نشطت حركة الترجمة عن العربية نشاطا كبيرًا، وخاصة في مدينة طليطلة خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وكانت الترجمة تتمُّ من العربية إلى الإسبانية، ومن ثُمَّ إلى اللاتينية، أو من العربية إلى اللاتينية مباشرة، ولم تقتصر الترجمة على مؤلفات العلماء العرب في كل مناحي المعرفة فحسب، وإنما شملت المؤلّفات الإغريقية الكبرى التي كانت قد ترجمت في المشرق قبل ذلك بقرنين؛ فتُرْجِمَتْ بعض مؤلفات اليونانيين مثل: كتب جالينوس، وأبقراط، وأفلاطون وأرسطو، وإقليدس، وغيرهم.
وكان من أشهر مترجمي طليطلة: جيرارد الكريموني ويسمى الطليطلي، قَدِمَ إلى طليطلة من إيطاليا سنة (1150م)، وتَنسَبُ إليه ترجمة ما يقرب من مائة كتاب بينها واحد وعشرون كتابًا طبيًا، منها المنصوري للرازي والقانون لابن سينا، ويبدو أن بعضها من إنتاج تلاميذه بإشرافه، وبعضها بالاشتراك مع غيره خاصة (غالب GALIPUS) وهو مستعرب.
وقام بالترجمة كذلك في القرن الثاني عشر إسبانيون، وآخرون قدموا إلى إسبانيا، ثم أنشأ ألفونسو العاشر ملك قشتالة (1252–1284م) عددًا من مؤسسات التعليم العالي، وشجع الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وأحيانًا إلى اللغة القشتالية(3).
يقول سارتون: «حَقَّقَ المسلمون – عباقرة الشرق – أعظم المآثر في القرون الوسطى، فكتبت أعظم المؤلفات قيمة، وأكثرها أصالة، وأغزرها مادة باللغة العربية، وكانـت مـن منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغةَ العلم الارتقائية للجنس البشري، حتى لقد كان ينبغي لأي كائن إذا أراد أن يُلم بثقافة عصره وبأحدث صُوَرِهَا أَن يَتَعَلَّم اللغة العربية، ولقد فعل ذلك كثيرون من غير المتكلمين بها، وأعتقد أننا لسنا في حاجة أن نبين منجزات المسلمين العلمية في الرياضيات، والفيزياء، وعلم الفلك، والكيمياء، والنبات، والطب، والجغرافيا»(4).
وعن مكانة قرطبة خاصة في انتقال الحضارة الإسلامية يقول جوان براند تراند جون: «إن قرطبة التي فاقت كل حواضر أوربا مدنيةً – أثناء القرن العاشر – كانت في الحقيقة محط إعجاب العالم، ودهشته كمدينة فينيسيا في أعين دول البلقان، وكان السياح القادمون من الشمال يسمعون بما هو أشبه بالخشوع والرهبة عن تلك المدينة؛ التي تحوي سبعين مكتبة، وتسعمائة حمام عمومي؛ فإن أدركت الحاجةُ حُكّام ليون أو النافار أو برشلونة إلى جَرَّاح، أو مهندس، أو معماري، أو خائط ثياب، أو موسيقي فلا يتجهون بمطالبهم إلا إلى قرطبة»(5).
ويؤكد المفكر ليوبولد فايس(6) أثر قرطبة في التدشين لعصر النهضة قائلاً: «لسنا نبالغ إذ قلنا: إنَّ العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه لم يُدَشّن في مدن أوربا، ولكن في المراكز الإسلامية؛ في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة»(7).
وحول الأندلس بصفة عامة كَمَعْبَر لاتصال الحضارة الإسلامية بالغرب وانتقالها إليه تقول زيجريد هونكه: ولم تكن جبال البرانس لتمنع تلك الصلات، ومن هنا وجدت الحضارة العربية الأندلسية طريقها إلى الغرب»(8).
وتضيف قائلة: «وقد حمل مشعل الحضارة العربية عَبْرَ الأندلس ألوف من الأسرى الأوربيين، عادوا من قرطبة وسرقسطة، وغيرها من مراكز الثقافة الأندلسية، كما مثل تجار ليون وجنوا والبندقية ونور مبرج دور الوسيط بين المدن الأوربية والمدن الأندلسية واحتكت ملايين الحجاج من المسيحيين الأوربيين في طريقهم إلى سنتياجو بالتجار العرب والحجاج المسيحيين القادمين من شمال الأندلس، كما ساهم سيل الفرسان، والتجار، ورجال الدين المتدفقين سنويًا من أوربا إلى إسبانيا في نقل أسس الحضارة الأندلسية إلى بلادهم، وحمل اليهود من تُجار، وأطباء، ومتعلّمِينَ ثقافة العرب إلى بلدان الغرب، كما اشتركوا في أعمال الترجمة بمدينة طليطلة، ونقلوا عن العربية عددًا كبيرًا من القصص والأساطير والملاحم”(9).
وهكذا كانت الأندلس مركزًا مهما من مراكز الحضارة الإسلامية، وكانت من أهم معابر انتقالها إلى أوربا.
الهوامش:
- هاني المبارك وشوقي أبو خليل دور الحضارة العربية الإسلامية في النهضة الأوربية، ص: 51-52.
- جوستاف لوبون حضارة العرب، ص: 273.
- انظر: محمود الجليلي: تأثير الطب العربي في الحضارة الأوربية الرابط:
http://www.islamset.com/arabic/aislam/civil/civil1/algalely.html
- حسان شمسي باشا هكذا كانوا يوم كنا، ص: 8، وانظر: أحمد علي الملا أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية، ص: 110–111.
- جون براند تراند إسبانيا والبرتغال دراسة منشورة بكتاب تراث الإسلام بإشراف (أرنولد)، ص: 27.
- ليوبولد فايس: (1900–1996م) نمساوي يهودي الأصل، درس الفلسفة والفن في جامعة فيينا ثم اتجه للصحافة فبرع فيها، وغدا مراسلاً صحفيًا في الشرق العربي والإسلامي، أسلم وتسمى باسم محمد أسد.
- محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق، ص: 40.
- زيجريد هونكه: شمس العرب، ص: 31.
- زيجريد هونكه: شمس العرب، ص: 532.