منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (17)

منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (16)
26 ديسمبر, 2022
منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (18)
4 فبراير, 2023

منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (17)

الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي

التعريب: محمد خالد الباندوي الندوي

لم تسنح له الفرصة بعد ذلك إلى زيارة شرق الأردن مع أنه كان بينه وبين ولي عهدها الأمير حسن بن الطلال صلات وطيدة، وعلى الرغم من دعوته للحضور مرارا لم يسافر إليها، وشاء القدر أن يسافر إليها سنة 1984م على دعوة من “مؤسسة آل البيت”، وكان الأمير حسن بن الطلال رئيس هذه المؤسسة.

وقد حضر الأمير في حفلتها الافتتاحية وألقى فيها كلمة تقدير وشكر للضيوف القادمين وخاصة للشيخ الندوي ورحب بقدومه في بلده، وكان موضوع الحفلة الافتتاحية للمؤتمر التي عقد في شهر رجب 27/ ” قضية فلسطين وتحريرها من الأيدي الغاشمة” ألقي فيها الأمير حسن كلمة جامعة كاشفة عن مختلف جوانبه وخلفياته التاريخية والقضايا والأخطار المعقدة الدقيقة للعالم الإسلامي والعربي التي تنشأ بسبب وجود دولة إسرائيل المحتلة وقد قدم على أساس الخرائط التي أعدت خصيصا لهذه المناسبة إحصائيات تفصيلية، ثم لما فرغ من خطبته قام الشيخ الندوي خطيبا، ولفت عناية من حضر في المؤتمر من القادة والزعماء والعلماء إلى قوة الإيمان الحقيقية وحاجة العالم إليها فقال:

“إن هناك شواهد مستمرة في التاريخ الإنساني – وفي التاريخ الإسلامي بصفة خاصة –، أن الحقيقة الحاسمة المغيرة لمقادير الشعوب ومصاير الأمم، ليست هي القوة التي تعمل على تغيير خريطة البلاد السياسية، وخطط الحرب الاستراتيجية، والعدد والعدد والقلة والكثرة والأوضاع الغالبة القاهرة، بل إن القوة التي تحدث الثورة والانقلاب وتجعل المستحيل ممكناً، هي تلك الشخصية التي تمتلىء عزيمة خارقة للعادة وإيماناً صادقاً، متهيئة لتغيير الأوضاع وقلبها رأساً على عقب، ومقدمة في سبيل ذلك كل تضحية وإيثار، والتي لا يقرّ لهـا، قرار ولا يهدأ لها بال في ركوب المخاطر وخوض المغامرات والبطولات، ويشهد التاريخ أنه لا تغني عند ذلك هذه الإحصائيات المحبوكة الدقيقة وتذوب جبال المشكلات والصعوبات والمخالفات والمعارضات كما يذوب الثلج أو تذوب الشمعة، وتطلع شمس النصر والفتح المبين وهاجة تقشع ضباب البرد، وتقطع حجاب الظلمة وتخطف بالأبصار، وهذا هو الدرس الذي نتلقاه من الحروب الصليبية، وتلك هي العبرة في حياة صلاح الدين الأيوبي، وقد أشار العلامة محمد إقبال إلى هذه الحقيقة بأسلوبه الخاص في بيتين من شعره، يقول فيهما:

(إذا كان أحد هناك يناضل مثل «الكليم»، فإنه لا يزال يأتيه نداء: لا تخف من شجرة الوادي الأيمن، لقد انكشف علي بصحبة الشيخ الرومي هذا السرّ الدقيق، إن «كليماً واحداً مستميتاً فوق مائة ألف فيلسوف حكيم).

وخلاصة الحديث وروحه؛ أن المسألة ليست مسألة الإحصائيات، فإنّ الإحصائيات تتغيّر إن المسألة الحقيقية هي وجود الرجل المختار، الرجل الذي يملك عزيمة وإيماناً، واعتزازاً بالدين، وإرادة قوية صارحة لتغيير الوضع مهما كان مدعماً بالحقائق والإحصائيات، رجل كصلاح الدين الأيوبي”.

“قام الشيخ الندوي بكشف ما طرأ على القلوب من سحب اليأس والقنوط، كأنه شعر – بعد خطبة الأمير المشتملة على الأرقام والإحصائيات – بحالة الناس أنهم أصبحوا في يأس عن مستقبل الفلسطينيين الأحرار وعن استعادة مجد القبلة الأولي من براثن اليهود.

وبعد مغادرته شرق الأردن لم يعد إليها، ومضت على ذلك الأعوام تلو الأعوام حتى تلقى دعوة من “رابطة الأدب الإسلامية العالمية”وذلك سنة 1998م، فسافر إليها للحضورفي حفلتها التي تضم أمناء الرابطة، وواجه على مطار شرق الأردن ما واجه من عناء البحث والتفتيش، وقد سافر إلى الأردن من دولة باكستان الدكتور ظهور أحمد أظهر، وهو يصف حادث التفتيش في المطار بقلمه البليغ ننقل فيما يلي نصه بعد الترجمة:

” ومن سخافة العقل والخبث الدفين في الباطن أن تتعرض الشخصية المثالية التي يعرفها العرب والعجم، والتي طبق ذكرها بين الخافقين لعملية البحث والتفتيش، وتحبس على المطار لمدة طويلة بدون سبب، وعلى الرغم من ذلك ما بدت على وجهه آثار الكراهية، بل تلقى كل ذلك مبتسما وبكل رحابة صدر، لم ينبس ببنت شفة، والناس حواليه يتحدثون عن أمر التفتيش ويعتبرونه تعديا عليه، وإنه -والله-خير خلف لسلفهم الصالح، الذين صبروا على الشدائد، وتحملوا المحن في سبيل الحق، وخير دليل على أنه من ذرية الحبيب المصطفى الذي دعا لمن عاداه ونصر لمن اعتدى عليه، وآثرالعفو والصفح عمن ظلمه، وسرعان ما ظهرت آثار حلمه وصبره على المشاق حيث سارع العاهل الأردني الأمير حسن إلى عزل الرئيس المستبد الذي عانى الشيخ ورفقته من الصعوبات بإيعاز منه، وأصدر الأمر بفسخ مجلس الوزراء الذي كا ن يرأسه، وتشكيل مجلس جديد للوزراء، وما إن طلعت شمس الغد إلا وقد حضر رئيس وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في مجلس الشيخ الندوي وأخبر أن وفده المكون من أمناء الرابطة الإسلامية هم من ضيوف المملكة، والتمس منه أن ينزل مع وفده في فندق ذي خمسة نجوم، ولكن امتنع الشيخ الندوي واعتذر بأنه هنا في أحسن حال وأهدأ بال”.

(مجلة قافلة الأدب الإسلامي الباكستانية:1/149)

وإن مملكة شرق الأردن كان زمامها في تلك الفترة بيد الأمير حسن، وكان الملك حسين مصابا بالمرض الذي لقي فيه الموت، وكان متمرضا في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت الصلات بين الشيخ وبين الأمير حسن وطيدة، ودعا الأمير وفد الرابطة إلى مأدبة رسمية فاخرة حضرها عدد وجيه من الوزراء وأعيان البلدة، ثم ضمهم مجلس الحوار فيما بينهم، وألقى فيه الأمير كلمة عالية، ودعي أخيرا سماحة الشيخ الندوي إلى الخطاب فقال الشيخ الندوي:

“سعدت بعد مدة طويلة بالحوار مع العدد الوجيه من السادة والمشايخ العرب، وأريد مغتنما لهذه الفرصة السعيدة أن أقول بصراحة: أن العرب لم يكن قوما يذكر ويعرف، يتيهون في الصحراء المجدبة القاحلة فاصطفى الله منهم رسولا لتبليغ رسالته الخالدة، وجعلهم حملة رسالة سماوية بعد أن كانوا يتسكعون في الظلمات ويتخبطون خبط عشواء، وعلمهم بما لم يكونوا يعلمون به من قبل، حتى خضعت لهم البلاد العظيمة ودانت لهم الرقاب المستعصية، وتذللت لهم بلاد الروم والفرس – التي لم تكن تحتفل بهم – حتى ألقت إليهم مقاليد القيادة والوصاية على العالم البشري، وأصبحت مطيعة في كل شأن، وممتثلة لكل أمر، وكل ذلك بفضل طاعة الله والرسول وانخراطهم في سلكه وتمسكهم بذيله، وإن التاريخ يعيد نفسه اليوم، ويريد رجعة القهقرى، وقد أراد بهم العالم شرا ونكرا، وتكشرت القوات العالمية عن أنيابها لابتلاع ما حصل لهم من النباهة والمجد والشرف وإعادتهم إلى صحراء الذلة والخمول التي أخرجهم الله منها.

أيها السادة العرب! إنكم حصلتم بنعمة الإسلام ما حصلتم من العز والقوة، وإنه اليوم منبع قوتهم الوحيدة، ولست أول من قال ذلك، وإنما قال ذلك قبلي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله” فلا عز لكم أيها السادة إلا بالإسلام، لا بالقومية العربية ولا بالأحزاب الوطنية”.

(مجلة قافلة الأدب الإسلامي الباكستانية:1/151-152)

يقول الدكتور ظهور أحمد وكان من الحاضرين في الحفلة:

“بدأ الشيخ الندوي بالخطبة بلهجة عربية قوية أخذت بمجاميع القلوب وملكت علينا النفوس، حتى نسينا أننا في مجلس ملك من ملوك الدنيا، والكل حواليه مستمعون إلى كلامه صامتين، ولما فرغ من خطبته لهجت به الألسن، وتأثرت به وبكلامه النفوس وأثنى عليه الجميع”.

(مجلة قافلة الأدب الإسلامي الباكستانية:1/151-152)

ثم ازدادت الصلة بينهما موثقة يتبادلان الحب، حتى تأثر بفكره الإسلامي الحصيف عن طريق كتبه ومقالاته القيمة التي لعبت دورا ملموسا في تغيير وجهته إلى الرشاد، حتى عقدت به الأمة الرجاء وظنت به خيرا إلا أن الملك حسين عزله في مرض وفاته وقرر ابنه ولي العهد، “وكان أمر الله قدرا مقدورا”.

×