الدعاء النبوي مرآة صادقة للعبودية والاستسلام

خطر المنافق العليم اللسان على الأمة
10 ديسمبر, 2024

الدعاء النبوي مرآة صادقة للعبودية والاستسلام

عبد الرشيد الندوي

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: فقدتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ فوجدتُه وَهوَ ساجدٌ وصدورُ قدميهِ نحوَ القبلةِ فسمعتُه يقولُ: أعوذُ برضاكَ من سخطِك وأعوذُ بمعافاتِك من عقوبتِك وأعوذُ بِك منكَ لا أحصي ثناءً عليكَ أنت كما أثنيتَ على نفسِك

تخريج الحديث: أخرجه مسلم (486)، وأبو داود (879)، والترمذي (3493)، والنسائي (1130) وابن ماجه (3841)، وأحمد (25655).

شرح الحديث: في هذا الحديث الشريف نرى مشهدًا من أروع مشاهد عبودية النبي صلى الله عليه وسلم لله تعالى، حيث تصفه السيدة عائشة رضي الله عنها وهو قائم في جوف الليل، قد ابتعد عن فراشه ليخلو بربه في حالة من السجود والتضرع. وجدته رضي الله عنها وقد وضع وجهه على الأرض، وصدور قدميه متجهة نحو القبلة، يناجي ربه بكلمات تحمل من المعاني ما يفيض بالخشوع والافتقار التام.

كلمات الدعاء في هذا الحديث تختصر أعظم مقامات العبودية. يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “أعوذ برضاك من سخطك”، وهو اعتراف بأن رضا الله هو الغاية الكبرى التي تتضاءل أمامها الغايات، وأن سخط الله هو أعظم ما يُخشَى على العبد. هنا يُظهر النبي صلى الله عليه وسلم أن كل أمل العبد ينحصر في رضا الله، وأن الوقاية من غضبه لا تتحقق إلا بما يُرضيه.

ثم يقول: “وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك”. في هذا تعبير عن اللجوء إلى الله بنعمه وآلائه، وطلب الحفظ بها من غضبه وعقوبته. المعافاة تشمل سلامة الدين والدنيا، وهي من أسمى ما ينعم الله به على عباده. النبي صلى الله عليه وسلم يستشعر أن المعافاة من الله هي درع العبد وحصنه الحصين.

ويصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذروة التوحيد في قوله: “وأعوذ بك منك”. هنا يعلن صلى الله عليه وسلم أن الله هو الملاذ الوحيد، فلا يملك أحد دفع غضب الله إلا هو، ولا نجاة من عقابه إلا بالرجوع إليه. هذه العبارة تجسد معنى التوحيد الخالص، إذ لا يعتمد العبد إلا على مولاه، ولا يرى حماية من أي خطر إلا في رحمة ربه.

ثم يختم صلى الله عليه وسلم بقوله: “لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك”. هذه الكلمات العظيمة هي قمة التسليم بعجز الإنسان عن الإحاطة بعظمة الله وكمال صفاته، فالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم الخلق بربه، يعترف بأنه لا يستطيع أن يصف الله حق وصفه، ولا أن يثني عليه كما يليق به، بل الله هو الذي أثنى على نفسه بالكمال المطلق الذي لا يبلغه أحد.

هذا الحديث يعلّمنا أن العبودية لله هي أعظم مراتب الإنسان، وأن السجود والدعاء في جوف الليل من أصدق صور هذه العبودية. كما يدعونا إلى أن نستشعر حاجتنا المطلقة لله، وأن ندرك أن النجاة لا تكون إلا برحمته، والنجاح لا يتحقق إلا برضاه.

وبعد فإن الدعاء النبوي هو أصدق مرآة تعكس مقام العبودية الحقة لله عز وجل، فهو حديث القلب الصادق الذي يعبر عن افتقار الإنسان إلى ربه، وحاجته الدائمة إلى رحمته ولطفه. إنه لحظة من الانكسار التام بين يدي الله، حيث يتجرد العبد من حوله وقوته، ويعلن خضوعه المطلق لكمال الله وجلاله. في الدعاء يظهر التوحيد في أنصع صوره، إذ لا رجاء إلا في الله، ولا خشية إلا منه، ولا ملاذ إلا إليه.

×