من التقاعس والتواني إلى الجدية والصرامة

أهداف حققتها عملية طوفان الأقصى
17 يناير, 2024
بالإسلام سعدنا وعززنا
1 فبراير, 2024

من التقاعس والتواني إلى الجدية والصرامة

جعفر مسعود الحسني الندوي

سؤال جوهري كيف استطاع الغرب أن يتقدَّم، ويسود العالم، ولماذا تأخَّرت الدول الشرقية الإسلامية، وتخلَّفت وانعزلت عن العالم الغربي، وتنحَّت عن القيادة والريادة، وكيف استطاعت الدول الغربية أن تهيمن على الدول الشرقية تقنيًا واقتصاديًا وسياسيًا وحضاريًا وعلميًا، وكيف حققت تلك الإنجازات والانتصارات التي كانت لم تخطر ببالها قبل القرن الثالث عشر حين كان المسلمون يمسكون بزمام الأمور، ويسوسون العالم بأجمعه، ويمتلكون تلك المفاتيح التي تفتح بها أبواب الرقي والتقدُّم والازدهار، وكيف انقلبت الأوضاع، وتغيَّرت الظروف، وطلعت الشمس من الغرب، وأشرقت الغربَ كله بأشعتها؟، إن كل ذلك لم يحدث بين عشية وضحاها، ولم يكن عند الغرب مصباح علاء الدين، يحضر الجن بمجرد حكه، وتتم الأمور كما يشاء الغرب.

هناك ثلاث مراحل مرّ بها الغرب حتى تمكَّن من الاستيلاء والهيمنة على الدول الشرقية،المرحلة الأولى هي فترة ما بين القرن الثالث عشر إلى القرن السابع عشر، والمرحلة الثانية هي فترة ما بين القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، والمرحلة الثالثة هي فترة ما بين القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا.

إن المرحلة الأولى هي مرحلة تأسيس الدول الغربية واتصالها بالعالم الإسلامي، وتعرُّفها عليه، والمرحلة الثانية هي مرحلة مواجهة الدول الغربية للدول الشرقية الإسلامية، ومحاولتها لبسط نفوذها وسيطرتها عليها بالقوة تارة، والخداع تارة أخرى، والمرحلة الثالثة هي مرحلة الهيمنة المطلقة على الدول الشرقية الإسلامية والسيطرة الكاملة على كل ما يتعلق بها.

إن الغرب لم يكن جزءًا أساسيًا أو جزءًا كبيرًا كما نراه اليوم في عالمنا، لم يكن جزءًا جوهريًا في التاريخ، بل أن وجوده في التاريخ الإنساني وجود حديث، لأن أوروبا حضرت متأخرة إلى التاريخ كما قال سفير فرنسا لدى الولايات المتحدة في مقال نشر في أغسطس من هذا العام في مجلة “تيليغراف البريطانية”، يقول فيه: “يجب أن لا ننسى أننا جئنا إلى التاريخ متأخّرين، وكذلك لا ننسى أننا لسنا أساسيين في التاريخ، قبل منتصف القرن الثامن عشر لم يكن لأوروبا وجود يذكر في التاريخ”.

إننا إذا قرأنا التاريخ قبل منتصف القرن التاسع عشر نرى المسلمين متفوقين في كل مجال، وعلى كل مستوى، سواء كان مستوى الحضارة، مستوى الأخلاق، مستوى السياسة، مستوى التنظيم، مستوى الإدارة، مستوى الجانب العسكري، مستوى الجانب الأخلاقي، مستوى الجانب الاقتصادي، مستوى الجانب الثقافي، لكن الوضع قد تغيَّر حين تعرَّفت أوروبا على المسلمين، ورأت ما فيهم من الاشتغال بالعلم، وحرصهم عليه وولوعهم به، وعرفت من خلال رحلات أهاليها إلى الدول الإسلامية الجامعات المكتظة بالطلاب، والمكتبات الزاخرة بالكتب والمجامع العلمية المؤلفة من كبار العلماء المتخصصين في كل مجال من مجالات العلم والفن، ورأى فيها من المباني والشوارع والحدائق، ودهشوا لما وقعت أعينهم على ما وصلت إليه الدول الإسلامية من الحضارة والمدنية، والرقي والازدهار، والتفنُّن والتأنُّق، ونشاط التجارة والصناعة.

فأتاح هذا الاختلاط بالمسلمين والاختلاف إلى العواصم العربية، والتعرُّف على ما كانت عليه المدن الإسلامية من النظام والأمن، وتوفُّر أسباب الراحة وفرص دراسة نظم التعليم والتربية لدى المسلمين.

يقول مؤرخ غربي: إن العرب هم معلمونا الأولون لعلوم الفلك والطبيعيات والكيمياء والطب.

ويقول: إن التقدم الأوروبي العقلي رهين للتجارة المتبادلة مع الشرق وأعمال العلماء والمترجمين في الأندلس.

فكل ما نراه اليوم في الغرب من التقدُّم والرقيّ يرجع إلى مراكز العلم في طليطلة وقرطبة وغرناطة، فعضّ الغرب على العلم بالنواجذ، وبذل الغرب كل الجهد للحصول عليه وتطويره وتنميته، وجعل الابتكار والاكتشاف نصب عينيه بينما الشرق قد انقطعت صلته عن العلم، فوصل إلى ما كان الغرب عليه في عصر ظلامه.

فإذا أراد العالم الإسلامي –كما كتب العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله في كتابه”ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”-“أن يستأنف حياته، ويتحرَّر من رق غيره، وإذا كان يطمح إلى القيادة، فلابد إذن من الاستقلال التعليمي، بل لابد من الزعامة العلمية، وما هي بالأمر الهين، إنها تحتاج إلى تفكير عميق، وحركة التدوين والتأليف الواسعة، وخبرة إلى درجة التحقيق والنقد بعلوم العصر، مع التشبُّع بروح الإسلام والإيمان الراسخ بأصوله وتعاليمه، إنها لمهمة تنوء بالعصبة أولي القوة، إنما هي من شأن الحكومات الإسلامية، فتنظم لذلك جمعيات، وتختار لها أساتذة بارعين في كل فن، فيضعون منهاجًا تعليميًا يجمع بين محكمات الكتاب والسنة وحقائق الدين التي لا تتبدل، وبين العلوم العصرية النافعة والتجربة والاختبار، ويدونون العلوم العصرية للشباب الإسلامي على أساس الإسلام، وبروح الإسلام وفيها كل ما يحتاج إليه النشء الجديد، مما ينظمون به حياتهم ويحافظون به على كيانهم ويستغنون به عن الغرب، ويستعدون للحرب، ويستخرجون به كنوز أرضهم وينتفعون بخيرات بلادهم، وينظمون مالية البلاد الإسلامية، ويديرون حكوماتهم على تعاليم الإسلام، بحيث يظهر فضل النظام الإسلامي في إدارة البلاد، وتنظيم الشؤون المالية على النظم الأوروبية، وتنحل مشاكل اقتصادية عجزت أوروبا عن حلها.

وبالاستعداد الروحي والاستعداد الصناعي والحربي والاستقلال التعليمي ينهض العالم الإسلامي، ويؤدي رسالته، وينقذ العالم من الا نهيار الذي يهدده، فليست القيادة بالهزل، إنما هي جد الجد، فتحتاج إلى جد واجتهاد، وكفاح وجهاد، واستعداد أي استعداد:

كل امرئ يجري إلى

يوم الهياج بما استعدا”.

×