الحكمة في سلوك الإنسان
26 نوفمبر, 2022سلامة الصدر من الأحقاد
12 يناير, 2023سلامة الصدر من الأحقاد
الشيخ محمد الغزالي
قد اعتبر الإسلام من دلائل الصغار وخسة الطبيعة، أن يرسب الغل في أعماق النفس فلا يخرج منها، بل يظل يموج في جوانبها كما يموج البركان المكتوم.
وكثير من أولئك الذين يحتبس الغل في أفئدتهم، يتلمسون متنفساً له في وجوه من يقع معهم، فلا يستريحون إلا إذا أرغوا وأزبدوا، وآذوا وأفسدوا: روي عن ابن عباس أن رسول الله قال: “ألا أنبئكم بشراركم؟
قالوا: بلى، إن شئت يا رسول الله. قال: إن شراركم الذي ينزل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده، أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى، إن شئت يا رسول الله، قال: من يبغض الناس ويبغضونه، قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى، إن شئت يا رسول الله، قال: الذين لا يقبلون عثرة، ولا يقبلون معذرة، ولا يغفرون ذنباً. قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره”(1).
والأصناف التي أحصاها هذا الحديث أمثلة لأطوار الحقد عندما تتضاعف علته وتفتضح سوأته، ولاغرو، فمن قديم أحس الناس، حتى في جاهليتهم، أن الحقد صفة الطبقات الدنيا من الخلق وأن ذوي المروءات يتنزهون عنه قال عنترة:
ولا يحملُ الحقدَ من تَعْلو به الرُّتَبُ
ولا ينالُ العلا من طبعهُ الغضبُ
وهناك رذائل رهب الإسلام منها، وليس يفوت النظر القريب أن يعرف مصدرها الدفين.
إنها على اختلاف مظاهرها، تعود إلى علة واحدة هي الحقد.
فالافتراء على الأبرياء جريمة، يدفع إليها الكره الشديد. ولما كان أثرها شديداً في تشويه الحقائق، وجرح المستورين، عدها الإسلام من أقبح الزور، روت عائشة أن رسول الله قال لأصحابه: “أتدرون أربى الربا عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم، ثم قرأ رسول الله:
“والذين يؤذونَ المؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ بِغَيْر ما اكتسَبُوا فَقَد احتَمَلُوا بُهْتَاناً وإثماً مُبِيناً” [الأحزاب:58](2).
ولا شك أن تلمس العيوب للناس، وإلصاقهم بهم عن تعمد يدل على خبث ودناءة، وقد رتب الإسلام عقوباتٍ عاجلة لبعض جرائم الافتراء. وما يبيت في الآخرة لصنوف الافتراء أشد وأنكى.
قال رسول الله: “من ذكر امرأ بشيء ليس فيه، ليعيبه به، حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاد ما قال فيه”(3).
وفي رواية: “أيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة، وهو منها بريء، يشينه بها في الدنيا، كان حقاً على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار، حتى يأتي بنفاد ما قال”.
وما دام الذي قاله بهتاناً، فكيف يستطيع أن يثبت عند الله باطلاً؟ وكيف يتنصل من تبعته؟.
إن سلامة الصدر تفرض على المؤمن أن يتمنى الخير للناس، إن عجز عن سوقه إليهم بيده.
أما الذي لا يجد بالناس شراً فينتحله لهم انتحالاً، ويزوره عليهم تزويراً فهو أفاك صفيق.
قال الله عزل وجل: “إنَّ الَّذِينَ يُحبُّونَ أن تَشيعَ الفاحشَةُ في الَّذين آمَنُوا لهمْ عَذابٌ أليمٌ في الدُّنيا والآخرةِ، واللهُ يَعلمُ وأنتمْ لا تعلمونَ” [النور:19].
ومن فضل الله على العباد أنه استحب ستر عيوب الخلق، ولو صدق اتصافهم بها.
وما يجوز لمسلم أن يتشفى بالتشنيع على مسلم ولو ذكره بما فيه، فصاحب الصدر السليم يأسى لآلام العباد، ويشتهي لهم العافية. أما التلهي بسرد الفضائح، وكشف الستور، وإبداء العورات، فليس مسلك المسلم الحق.
ومن ثمَّ حرَّم الإسلام الغيبة، إذ هي متنفس حقدٍ مكظومٍ، وصدرٍ فقيرٍ إلى الرحمة والصفاء.
عن أبي هريرة أن رسول الله قال: “أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ! قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه”(4).
ومن آداب الإسلام التي شرعها لحفظ المودات، واتقاء الفرقة، تحريم النميمة، لأنها ذريعة إلى تكدير الصفو وتغيير القلوب.
وقد كان النبي ينهى أن يبلغ عن أصحابه ما يسوؤه، قال:
“لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر”(5).
وعلى من سمع شيئاً من ذلك ألا يوسع الخرق على الراقع. فرُبَّ كلمة شرٍ تموت مكانها لو تركت حيث قيلت! ورُبَّ كلمة شر سعرت الحروب، لأن غِرّا نقلها ونفخ فيها، فأصبحت شرارة تنتقل بالويلات والخطوب.
قال رسول الله: “لا يدخل الجنة نَمّام”(6)، وفي رواية “قَتَّات”.
قال العلماء: هما بمعنى واحد. وقيل: النَمَّام: الذي يكون مع جماعة يتحدثون فينقل عنهم. والقتّات: الذي يتسمع عليهم من حيث لا يشعرون ثم يَنُم.
وروي في الحديث: “إن النميمة والحقد في النار، لا يجتمعان في قلب مسلم”(7).
ومن لوازم الحقد سوء الظن، وتتبع العورات، واللمز، وتعيير الناس بعاهاتهم، أو خصائصهم البدنية والنفسية.
وقد كره الإسلام ذلك كله كراهية شديدة.
قال رسول الله: “من علم من أخيه سيئة فسترها، ستر الله عليه يوم القيامة”(8).
وقال: “من ستر على مؤمن عورة فكأنما أحيا موؤدة”(9).
وكثيراً ما يكون متتبعو العورات لفضحها أشد إجراماً، وأبعد عن الله قلوباً من أصحاب السيئات المنكشفة. فإن التربص بالجريمة لشهرها، أقبح من وقوع الجريمة نفسها، وشتان بين شعورين: شعور الغيرة على حرمات الله والرغبة في حمايتها، وشعور البغضاء لعباد الله والرغبة في إذلالهم!
إن الشعور الأول قد يصل في صاحبه إلى القمة، ومع ذلك فهو أبعد ما يكون عن التشفي من الخلق، وانتظار عثراتهم، والشماتة في آلامهم.
الهوامش:
- رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم: 10775.
- رواه البيهقي في شعب الإيمان، برقم: 6285.
- رواه الطبراني في معجمه الأوسط، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، برقم: 8936.
- رواه الإمام مسلم في صحيحه، برقم: 2589.
- رواه البزار في مسنده (البحر الزخار) من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، برقم: 2038، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم: 16675.
- رواه الإمام مسلم، من حديث حذيفة رضي الله عنه، برقم: 168، والرواية التي فيها “قتات”، برقم: 169.
- رواه الطبراني في المعجم الأوسط، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، برقم: 4653.
- رواه الإمام أحمد في مسنده، برقم: 16960، والطبراني في المعجم الكبير، برقم: 962.
رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم: 7231، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم: 9206.