الشريعة والمجتمع الاعتدال بين الحياة المادية والروحية (2/الأخيرة)
21 ديسمبر, 2019البيروني وإسهامه في العلوم (1)
21 ديسمبر, 2019الاستكبار
قالوا: ما الاستكبار؟ قلت: إظهار الإنسان عظمته، ورفعه نفسه فوق ما تستحق، وهو الاستعلاء على الآخرين واحتقارهم والازدراء بهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه مسلم في صحيحه: الكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ، وقد ندد الله بالمستكبرين في آيات كثيرة من كتابه تنديدا، وهددهم بأشد العذاب تهديد، والرجل المستكبر يهضم حقوق الناس، كأنهم لم يخلقوا إلا أذلة له صاغرين، ولم تصنع عيونهم إلا لتقع على مطالبه، ولا آذانهم إلا لتصغى إلى كلماته، ولا أجسادهم إلا للكد في سبيل أغراضه، يسير على ما يهوى، ويُكرِه غيره أن يجعلوا أهواءهم تبعا لهواه.
قالوا: ما حكمه؟ قلت: هو من المحرمات القبيحة، والرذائل المفسدة للأخلاق والمروءات، والسيئات المهلكة للدين والورع والتقى، وهو حمق وخبال، وعمى البصيرة، والصمم عن العدل والصواب، ورد النفس إلى جهالتها وغيها، قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه مسلم في صحيحه: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: العز إزاري، والكبرياء ردائي؛ فمن ينازعني عذبته.
قالوا: ما مبدؤه؟ قلت: هو أن يعجب الإنسان بنفسه، والعجب بالشيء شدة السرور به حتى لا يعادله شيء عند صاحبه، ومنه الاغترار بالمال والسلطان، والأتباع والأنساب، والمعجب بنفسه أناني، يرى نفسه أهم ما في الوجود، وكل شيء حوله له.
قالوا: ما تقول في إعجاب المرء برأيه؟ قلت: إنّ إعجاب الإنسان برأيه وفكره وعلمه مرض مزمن يفسده ويعفِّن من حوله، وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: أخوف ما أخاف على أمّتي ثلاث مهلكات: شُحّ مُطاع، وهوى مُتّبع، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه.
وأتذكر موقفا شهدته في بعض الدول العربية، قالوا: ما هو؟
قلت: صحبَنا مقرئ من باكستان، فتحدث مع عربي كان معنا عن حسنه وجماله وقال: يسوؤه أن الناس في بلاد العرب يظنونه من الهند، وإذا رأوه قالوا: شاه رخ خان، فقال العربي: أليست الهند وباكستان متجاورتين وقسمات وجوه أهاليهما متشابهة؟ قال: بلى، ولكن أهل باكستان أجمل من أهل الهند، وهو نفسه أوسم من شاه رخ خان في الظاهر والباطن، فهو مقرئ ومعه النور القرآني، وشاه رخ خان فاقد لهذا النور، فقلت في نفسي: إذا كان النور القرآني سبب تفضله على أهل الهند، فالمسلمون الهنود كذلك يحملون هذا النور المبين، ولعل عدد الذين يحفظون كتاب الله تعالى مع فقه له في الهند أكثر بدرجات ممن يحفظونه في باكستان.
ثم سأله العربي: أليست لغة باكستان والهند مشتركة؟ قال: نعم، ولكن أهل باكستان أفصح في نطقهم الأردي وبيانهم من أهل الهند، فبادرت، وقلت: لغة باكستان قد غلبتها اللغة البنجابية، فمن أين أصبحت لغتكم أفصح منا؟ قال: الأردية في الهند ضعيفة جدا، قلت: لا يزال – رغم هذا الضعف – خلائق لا يحصون يتحدثون ويكتبون بالفصحى منها، وعدد الأدباء والشعراء والنقاد ليس بضئيل في الهند، ولكن الرجل ألح على زيغه عن الإنصاف، وصبرت نفسي متبعا لمذهب ذوي الحلم والأناة، فإني من أشد الناس كراهية للجدال والخوض فيما لا يعنيني، تاركا ملاحاة اللئام وساعيا في نصيبي من الكرام.
قالوا: ما أكبر ما جنى المعجبون المتبخترون؟ قلت: زعموا انفرادهم بكل فخر ومنقبة، وآثروا أنفسهم على كل شيء حتى العدل والحق، واستبدوا بالصدق والصواب، وشوهوا الحقائق تشويها، وما رأيت مظلوما مثل الصدق والحق، وما أشد بغي الناس في الأرض وعلو بعضهم على بعض، وداؤهم هذا الدوي هو حاملهم على التعصب لآرائهم وإكره الناس على اتباعها، وهم يعلمون أنهم في ظلم بين وجور صريح، وهم جاحدون فضل غيرهم، وكارهون لهم حمدا، ما أغفلهم عن مصيرهم! بينما يرى الإنسان في عجبه وزهوه أمسى وقد حل عليه البلى، فلا تغترر بالحادثات، فما للحادثات على امرئ بقيا، يا معجبا بنفسه! أتزهو وأنت في خلس الردى.
قالوا: ما علاج الاستكبار؟ قلت: الإيمان بالله واليوم الآخر، والتدبر في كتاب الله تعالى، والنظر في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته، وسيرة أصحابه والتابعين، والحذر من الغفلة وقسوة القلب، والسعي إلى المواظبة والمداومة على ذكر الله، والتقرُّب إليه بالطاعات والدعوات، والتفكر في المصير، فلا تمشوا في ثياب مخيلة، فقد خلقتم من طين وماء، وما الحياة إلا أنفاس تعد، كلما مضى نفس منها نقص جزء، يقدِّر الإنسان في نفسه أمرا، ويأباه عليه القضاء.
قلت: ولا تغبطن فتى متكبرا، ولا تغبطن خلا أخا الخوف والخشوع، وتواضعوا لله تعالى، فما أزين التواضع لأصحابه، وهو أس الأخلاق والتقى، والمتواضعون لهم السمو والعلى، واعتزلوا الأنام ما وجدتم إلى الاعتزال سبيلا، وما أحسن ما قال الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى: من أحبّ أن يفتح الله قلبه ويرزقه الحكمة فعليه بالخلوة وقلّة الأكل وترك مخالطة السفهاء وبعضِ أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب. (مناقب الشافعي للبيهقي 2/172).
الدكتور محمد أكرم الندوي، أوكسفورد