الاستكبار
21 ديسمبر, 2019الشريعة والمجتمع الاعتدال بين الحياة المادية والروحية (2/الأخيرة)
تلك حقيقة قرآنية لا يرتاب فيها امرؤ معه عقله، فالمهتدون السائرون على هدى الله في هذه الحياة هم الذين يزيدهم الله هدى، وبهم يشرق المجتمع الإسلامي بالمعاني النبيلة الفاضلة، والذين لا تشدهم الحياة الدنيا، ولا تجذبهم بزخارفها وهم الذين فطنوا لدورهم في الحياة، ومهمتمهم السامية في المجتمع الإنساني، ومن أجل ذلك فهم حريصون على أن يتمثلوا مبادئ الحق، وأن يرتادوا سبل الخير والإصلاح، وهم بهذا كله جديرون بأن يمكن الله تعالى لهم في الأرض، وقد رسم القرآن الكريم صورة مشرقة، ووضح ركائز التمكين في الأرض، وهي تتركز في المبادئ الآتية:
أولاً: توثيق الصلة باالله -سبحانه وتعالى-، بالقيام بأداء أوامره واجتناب نواهيه، والإعلان عن ذلك إنما يتمثل في القيام بالصلاة التي هي عنوان الطاعة الله -سبحانه وتعالى-، فالصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين،وهي تكف صاحبهاعن الفحشاء والمنكر كما قال االله تعالى:
“إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ” [العنكبوت:45].
وهـي الصلة الوثيقـة بين العبـد وخالقه الكبير المتعال.
ثانياً: ربط الصلة بالمجتمع، ونشر وسائل التكافل الاجتماعي؛ ً تأكيدا وتنمية للعلاقات الإنسانية الفاضلة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وعلى قمة هذه العلاقات أداء الزكاة.
ثالثاً: المهمة الكبرى التي تتطلب الغيرة من كل مسلم على دينه، ودعوة الغير إلى الرشد والخير بالحكمةوالموعظةالحسنة،والعمل على نشر فضائل الإسلامومبادئهعن طريق الدعوة إلى الله ومحاربة المنكر ومقاومة الشر والفساد أمراً ونهيًا عن المنكر، قال الله تعالى:
“الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ” [الحج:41].
إن ركائز التمكين في الأرض تعني القيام بواجب الإنسان المسلمتجاه خالقه -سبحانه وتعالى- وتجاه نفسه، وتجاه المجتمع الذي يعيش فيـه، فينبغي عليـه أن يكون ً حريصا على نشر الفضائل ومقاومة المنكر.
كمـا يجب على كل مسـلمأن يدرك أهمية الوقـوف عند معالـم الحق والخيـر بحيث لا يميل ولا يحيد ولا ينحرف يمنة أو يسرة.
كمـا يجـب عليـه الوقـوف فـي مواجهة التيـارات الماديـة الجارفـة التـي تشـكلت بأشـكال مختلفة، وتسـمت بأسـماء متباينة متخـذة بعـض المذاهـب الفاسـدة، وبعض النظريـات الوافدة مذهباً وطريقاً، وفي هذا تضييع للقيم، وحرب للإسلام؛ فيجب الوقوف في وجه تلك التيارات من شـيوعية وقاديانية وبهائية وغير ذلك من المذاهب الهدامة.
ومقاومة هذهالتياراتالوافدة من أهم ركائز التمكين في الأرض؛ لأنه باب واسـع من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جعله الله -سـبحانه وتعالى- مـن أهمدعائم خيرية هذه الأمة في قوله سبحانه وتعالى:
“كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ” [آل عمران:110].
ويقول رسـول الله -صلوات الله وسلامه عليـه-: «من رأى منكم منكـرا فليغيره بيده، فـإن لم يسـتطع فبلسـانه، فإن لم يسـتطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
وقد أثـار أعداء الإسـلام وخصومه بعض الشـبهات، يحاولون أن يتهموا الإسـلام بأنه مـادي وبنقـص الناحية الروحيـةفيه، وهي بدون شـك شـبهة واهيـة لا أسـاس لها من الصحة؛ فإن التشـريع الإسـلامي جـاء وافياً بحاجـات البدن والروح، وبتنظيـم الجانبين والاعتـدال بينهما بلا إفـراط أو تفريط، ومن المعلـوم أن الإنسـان يتكون مـن عنصرين؛ أحدهمـا مادي والآخـر روحي، وقد توسـط الإسـلام بين الطرفين، والتوسط هوالفضيلة المثلـى، وقـد وجـهالقـرآن الكريـم جميـع المسـلمين إلى مراعاة مطالب الدنيا والآخرة، فقال -سبحانه وتعالى-:
“فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ” [البقرة:200-202].
ونهى القرآن عـن تحريم الطيبات ً حفاظا على جانب الاعتدال بيـن المادة والروح، كما حرم الاعتداء ومجاوزة الحدفي ذلك، بل على الإنسـان أن يـأكل مما رزقه اللـه من الحلال الطيب على أساس من التقوى والإيمان.
قال سبحانه وتعالى:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ” [المائدة:87].
ويركز الإسلام بتوجيهه للمسلمين ً محذراً لهـم أن تفرقهـم الحيـاة الدنيـا بماديتهـا ومباهجهـا، وأن الأمـوال والأولاد فتنة، وعند الله عظيم الأجر للمخلصين فقال سبحانه:
“وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ” [الأنفال:28].
وقال تعالى:
“زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ” [آل عمران:14-15].
وقـد وضـح الإسـلام أهمية طلـب الآخرة وضرورة العمل لهـا، فمن كانت الآخرة همه، وعمـل لها جمع الله له مـا يريد، وجعله غني النفس، غنياً بالإيمان، وتأتيـه الدنيا منقادة راغمـة، وأما الذي ينكب على المادةيجمعها، ويجعـل الدنيا همهفإن الله يجعل الفقر بين عينيه، ومهما واصل التعب والكد في سبيلها فإنـه لا ينال منها إلا ما قدره الله -سـبحانه وتعالى-.
عـن زيد بن ثابت -رضى اللـه عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “….ومن كانت ا لدنيا نيته فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينين، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة”.
وحيـاة السـلف حافلـة بالإيثـار والبذل والتضحية والمعروف حتـى وإن ترتب على ذلـك بذل كل مـا يمتلكون، نعمالإسـلام دعا بالتوسط كما سبق، قال تعالى:
“وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ” [الإسراء:29].
ولكن سلفنا الصالح في نظرتهم الإيمانية الفاحصة يدركون قيمة ميراث الأبناء من بعد، وخطورة المادة حين يقوى جانبها ويشـتد، وحين يمسك الأبناء بها وينحرفون بسببها.
فمن الناس من يـورث أبناءه أموالا طائلة وعقـارات لا حصـرلهـا ظناً منه أنـه حين يفـارق الحيـاةيفارقها وهـو مطمئن عليهم مـن الفقر، ولوأنه ورث أبنـاءهثروة الإيمان والعمـل الصالح، والقيـم الروحية والتهذيب الخلقي لكانـوا أغنى بكثير، وأعظم وأسـعد من ميراث المال الذي ربما أفسدهم ومزقهم، ومـن الناس من يـورث أبنـاءه إيماناً صادقاً وعملا صالحا وسـلوكا قويما، ولم يترك لهم من المال شـيئا، فإذا بثـروة الإيمان والعمل الصالح تجعلهمأغنياءفي الدنيا وفي الآخرة، وهـا هـوذا أنموذج من السـلف الصالح، إنه الخليفة الراشـد عمر بـن عبدالعزيز -رضي اللـه عنه- لقدقال له مسـلمة بـن عبد الله – رضـي الله عنه – عند مـرض موته: يا عمر، لقد تركت أولادك لا شـيء عندهم فيصبحون فقراء، وما كان هذا يقع منك يا عمرفرد عليه قائـلا: والله ما منعتهم حقا لهـم، فبني أحد رجليـن: إما رجل يتقـي الله فسـيجعل الله له مـن كل ضيق مخرجـا، ويرزقه من حيث لا يحتسـب، وإما رجل ُمكب على المعاصي، فإني لم أكن أقويه على معصية الله.
إن الإسلام دعوة إلهية لسعادة البشردنيا وآخـرة، وفـي قوانينه الرشـيدة أمان للنفس والمال والعرض، وفي ظل تعاليمه السـمحة المضيئة تشـرق حياة الناس بالخير والرشد والحق والسـعادة، والله هوالهادي إلى سواء السبيل.
أ. د/ أحمد عمر هاشم