أمراض المجتمع وعلاجها

العالم في حاجة إلى وسيط عادل
14 أغسطس, 2024

أمراض المجتمع وعلاجها

الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي

تعريب: سعد مبين الحق

[ ألف فضيلة الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي الرئيس العام لندوة العلماء كتابا (بالأردية) عالج فيه أمراض المجتمع والفساد المستشري فيه، وتناول 21 مرضًا منها بالبحث، وأرشد إلى طرق التجنب من هذه الأمراض الخلقية الخطيرة، فنطرًا إلى أهمية الكتاب وفائدته في مجال التوجيه والإرشاد تنشره “الرائد” بالأقساط لتعم الفائدة ].

(1). الكبر

من الأمراض الباطنة التي ليست بأقل خطرًا من السرطان، وتؤدي إلى فساد الإنسان وهلاكه، الشعورُ الزائدُ الكامنُ في أغوار النفس بالعظمة والاستعلاء، وهو يسمى بـ”الكبر”، وإن العظمة كلها لله وحده، وهو لا يحب أن يشاركه أحد في هذه الصفة، يقول عز وجل: “لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ” (القصص: 83)

وقد جاء في الحديث القدسي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني في شيء منهما عذبته”. (الأدب المفرد، كتاب المريض، باب الكبر:552)

وقد وصف القرآن الكريم فرعون وهامان بالكبر والعلو: “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ” (القصص: 4)

والمؤمن عبد خاشع متواضع، يتجرد من جميع أنواع الكبر والاستعلاء، وإن هذه العبدية الخالصة هي أحب شيء إلى الله، وقد أحبَّ اللهُ كلمة “العبد” لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عندما أكرمه بأعلى مراتب الشرف، فقال: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى” (الإسراء: 1)

وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في قمة التواضع عند فتح مكة، دخل مكة راكبًا ناقته القصواء محنيًا رأسه تواضعًا لله عزّ وجل حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، وجاء صحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بين يديه فأخذته رعدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد. (سنن ابن ماجة، كتاب الأطعمة، باب القديد:3437).

ولذلك كل من يلتقي به كان يشعر بالهيبة بادئ ذي بدء، ولكن سرعان ما يتحول هذه الهيبة إلى محبة كما قال علي رضى اللى عنه: من راه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه”.

الفرحة والاستبشار بأداء العمل الصالح أمر محمود، وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم: “اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا”. (سنن ابن ماجة، كتاب الأدب، باب الاستغفار: 3952)

‏أما الأمر الممقوت المهلك فهو الشعور بالعظمة والكبر، ومهما كانت أعمال المرء عظيمة، ومهما كان تأثيرها على الناس كبيرًا، ومهما كانت عباداته وطاعاته فإنه لا ينبغي له أن ينسب الحسنة إلى نفسه، بل يعتبر كل ذلك توفيقًا من الله.

فقد لعن إبليس بسبب استكباره واستعلائه، كان في زمن من الأزمان من العباد المقربين، ولكنه لما خلق الله آدم من التراب، ونفخ فيه الروح، وأمر الملائكة بالسجود له، استكبر واستنكر وتجبَّر، قال الله تعالى: “أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ”(البقرة: 34)

فكان سبب طرده من الجنة هو الكبر الذي جعل الشيطان ملعونًا، كما ذكر القرآن سبب امتناعه عن السجود فقال: “قَالَ يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ. قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُمن طين (75-76)

فإن الشعور بالكبر والاستعلاء هو الذي أبعده من رحمة الله، وباتباع خطوات الشيطان وقع كثير من الناس في الكفر، كما هلك كثير من الناس ولم يقبلوا الحق لأن أصحاب الحق كانوا في نظرهم من سفلة الناس والفقراء، فقالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون، فكم سبَّب الكبر حرمانا وشقاء…، وجرَّ ويلات وخيبات….

وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان جبلة بن الأيهم يطوف بالكعبة إذ وطيء على إزاره رجل من بني فزارة دون قصد، فحله، فالتفت إليه جبلة مغضبًا فلطمه فهشم أنفه، فاستعدى عليه الفزاري عمر بن الخطاب، فقال له أمير المؤمنين: “فأما أن ترضيه وإلا اقتص منك بلطمك على وجهك”. قال: أيقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟ قال: يا جبلة، إنه قد جمعك وإياه الإسلام، فما تفضله بشيء إلا التقوى، لكن كبر جبلة قاده إلى الهلاك، فقد هرب وتنصر، ثم ما زال على نصرانيته حتى مات. (العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي)

فهذا الشعور بالعظمة يتسلل إلى النفس دون أن يشعر به المرء، خاصة عند أهل العلم والدين يعمل هذا المرض كالسوس فينتشر ببطء، ونتيجة لهذا الشعور تتولد في قلب المرء الأنانية والاستبداد والاستكبار واحتقار الآخرين، مما يؤدي إلى هلاكه. عامة ما يمنع الناس من قبول الحق، هو الكبر كما حدث مع فرعون وقومه عندما رفضوا دعوة موسى عليه السلام بسبب استكبارهم وعلوهم، قال تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ” (المؤمنون: 46)

كذلك الذين رفضوا دعوة الأنبياء، كانوا يعتبرون أنفسهم أعلى منهم شأنًا، فكانوا يشعرون بالخجل والذل من اتباع ما يتبعه سفلة الناس والفقراء، وصوّر الله تعالى ذلك في القرآن بقوله: “فَقَالَ الملَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْي وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين” (هود: 27)

ولهذا السبب، غضب الله غضبًا شديدًا على المتكبرين والمستكبرين بقوله: “الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ” (غافر: 35)

وقال: “لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المستكبرين” (النحل: (23)

وقال: “قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِرِينَ” (الزمر: (72)

وفي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر”. (سنن أبي داؤد)

فإن الكبر مهما كان نوعه وشكله، كان في العبادات أو المعاملات، أو الحسب والنسب، أو القوة والسلطة، أو كثرة الأنصار، فإنه في كل أشكاله وصوره ممقوت ومبغوض وما عاقبته إلا الذل والهوان.

×