العالم في حاجة إلى وسيط عادل

الهجرة المحمدية: من مكة إلى المدينة وبداية عهد جديد
7 أغسطس, 2024
أمراض المجتمع وعلاجها
14 أغسطس, 2024

العالم في حاجة إلى وسيط عادل

محمد واضح رشيد الحسني الندوي

بمناسبة انعقاد مؤتمر حركة عدم الانحياز NAM في الفترة ما بين 26-31/ أغسطس 2012م في طهران عرف الناس أن هذه الحركة باقية، وقد لعبت هذه الحركة دوراً فعالاً في عهد الحرب الباردة، وصراع القوتين العالميتين: المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي الغربي، وكان لها صوت مسموع في الأمم المتحدة، وكان من قادتها جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند، وشون لايئ رئيس وزراء الصين، والرئيس تيتو رئيس يوغوسلافيا، والرئيس سوركانو رئيس إندونيسيا، والرئيس جمال عبد الناصر رئيس جمهورية مصر، وبدأ نشاطها بمؤتمر “باندونج” بإندونيسيا عام 1955م، حيث اتخذت قرارات مؤثرة عرفت بـ “المبادئ الخمسة” للتعايش السلمي، وما عرف بـ “بنج شيل” وكان من هذه المبادئ: عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أو التعرض لها، وحل القضايا بالوسائل السلمية، وعدم اللجوء إلى استخدام القوة لحل المشاكل، واحترام سيادة جميع الدول وسلامة أراضيها، وتعزيز المصالح المشتركة والتعاون المتبادل.

ولعبت هذه الحركة دورها في حل عدد من القضايا العالمية، ومنها قضية التمييز العنصري الذي كان سائداً في عدد من الدول، وساعدت هذه الحركة في تسهيل مرحلة تحرير عدد من البلدان التي كانت خاضعة للاستعمارالغربي، كما حالت دون تطور الصراع بين القوتين العالميتين إلى صراع مسلح، وكافحت ضد التمييز العنصري.

وقد كانت بعض الدول في تلك الفترة مرتبطة بأحلاف عسكرية، فلم يكن يسمح لها بالاشتراك في مداولات وتحركات هذه الحركة، فكان عدد الأعضاء المشتركين في مؤتمر القمة الأول الذي انعقد في عام 1961م في بلغراد 25 بلداً.

ونامت هذه الحركة التي عرفت في الإنجليزية بـ”نام”(NAM) مدة طويلة، ولم يسمع لها دوي في الأوساط السياسية لأسباب داخلية وخارجية، منها فقدان القيادة الفعّالة لهذه الحركة لوفاة عدد من زعمائها الذين كان لهم صوت مسموع، وكانت فيهم جرأة للنقد والتأثير على شعوبهم، وعلى المجتمع الدولي، كما شوهد أثناء العدوان الثلاثي على مصر؛ فأرغمت قوى الاحتلال على الخروج من البلاد، وكان لوجود قوتين عالميتين مواجهتين أيضاً دور في أهمية هذه الحركة وفعاليتها وتأثيرها.

وبعد انفكاك الاتحاد السوفيتي كقوة عالمية مواجهة للدول الأوربية وأمريكا، فقدت الأحلاف العسكرية واحتماء دول آسيوية وأفريقية صغيرة بها أهميتها، فقدت هذه الحركة أهميتها، فقد بقيت قوة عالمية واحدة بقيادة أمريكا، وأعلنت سيادتها، وفرضت هيبتها على النفوس، ونشأت حركة العولمة، وهي وجود نظام عالمي واحد، ذي ثقافة واحدة، وقوة واحدة، وبلغ الأمر حد “لا ونعم” في بعض الأمور، إما الانقياد الكامل لهذه القوة، وإما الحرب أو التدمير.

وحدث ذلك فعلاً خلال أكثر من عشرين سنة منذ انسحاب قوة عالمية ثانية من معركة الحياة أو المسرح السياسي، فأصبحت عدة دول فريسة لسيطرة وحكم قوة واحدة، ومن امتنع من هذا الانقياد للقوة العالمية الواحدة تعرض للإجراءات القاسية.

ومن سوء الحظ أن الأمم المتحدة التي كانت جمعية عالمية غير منحازة؛ تقوم بدورها بحل القضايا العالمية باشتراك دول عالمية حرة، واشتراك قوتين عالميتين والدول المرتبطة بهما، أصبحت مشلولة، لسيطرة قوة عالمية واحدة، والدول المتذيلة بها التي لا تقوى ولا تجرؤ على معارضة سياسة تلك القوة، وأصبحت هذه الهيئة أداة لتنفيذ مصالح القوة الواحدة، أو الصمت عليها.

إن انعقاد مؤتمر عدم الانحياز في طهران أعاد إلى الذاكرة دور هذه الحركة رغم أن المؤتمر لم يستطع أن يرفع صوته ولم يعلن موقفه المرجو منه إزاء القضايا المعاصرة، ولم يطالب بقوة حل القضايا بالوسائل السلمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية الذي يشهده العالم اليوم في كل مجال من مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية.

ولعل خروج روسيا من حالة الانعزال التي ظلت فيها منذ انفكاكها واتخاذها مواقف معاندة في الأمم المتحدة، وفي بعض القضايا العالمية أعاد إلى أذهان قادة العالم الذي كان يعرف بالعالم الثالث في السابق وهو العالم غير المنحاز أن يجددوا هذه الحركة بعد إدراك نتائج تسلط قوة واحدة في العالم.

لقد جاء انعقاد هذا المؤتمر في أوانه، ولكن المسألة مسألة القيادة لهذه الحركة، وبتوفر قيادة غير منحازة في الواقع وقيادة جريئة ترفع صوت المضطهدين، وتندد بالإجراءات غير العادلة تستعيد هذه الحركة دورها، وتتطلب هذه القيادة جرأة لتقول من هو الظالم؟ ومن هو المظلوم؟ وتساعد المظلوم، أو تقوم بإجراءات لتعبئة الرأي العالمي للتنديد بالظالم، وتقوم بحركة قوية لإعادة الحرية والاستقلال في الأمور الداخلية لكل بلد أصبح مربوطاً أو معلقاً بالقوة الواحدة المسيطرة.

لقد فقدت الدول التي تحررت من الاستعمار الغربي حريتها التي نالتها بعد الاستقلال عملياً، فإنها تحررت من الغزو العسكري فوقعت فريسة للغزو الثقافي والسياسي، أو تهدد بالغزو العسكري، وهي تتجه من الاستعمار الجديد إلى الاستعمار الحقيقي السابق.

ولانقاذ هذه الدول من الدخول في عهد الاستعمار الحقيقي السابق تحمل هذه الحركة أهمية، وتتحمل مسئوليته، ولكن لا بد لها أن تبقى غير منحازة في الحقيقة، وقد شجع اشتراك دول عالمية بعدد ملحوظ على التفاؤل بأن هذه الحركة ستقوم بدورها المطلوب في حل القضايا العالمية بدون تدخل القوى الكبرى أو فرض سيطرة قوة واحدة، وتنال الدول الصغيرة حريتها في تصريف أمورها الداخلية وحل مشاكلها حسب مصلحتها الوطنية بدون تدخل أجنبي.

إن عدم الانحياز في عهد قيام هذه الحركة كان عدم الارتباط بقوة عالمية، والامتناع عن الأحلاف العسكرية كناتو، وورسو، وسيتو، وأحلاف عسكرية أخرى كانت قائمة في ذلك العهد، ولا يعنى الانحياز أن لا يقال للظالم أنه ظالم أو الانحياز في توجيه ذم الاعتداء وإعانة المعتدى عليه، فإن هذا الانحياز لا يخدم مصلحة هذه الحركة، ويدل تاريخ هذه الحركة أنها قامت بإدانة الظالم، وتمثيل دور رادع بين الجبهتين، وأنقذت فريسة الاعتداء من الاعتداء، وشكلت في الأمم المتحدة قوة ثالثة يحسب لها حساب.

ومثل هذه الحركة حاجة العالم اليوم، وتجددت أهمية هذه الحركة لظهور قوة ثانية واستئنافها لدورها المقابل للقوة العالمية التي تسلطت على العالم؛ فقد ظهر بروز هذه القوة الثانية في سوريا، ولذلك تستمر المأساة الإنسانية في سوريا، بتدخل قوى عالمية كبرى في أمور البلاد، وقد كان يتوقع أن المؤتمر سيوضح موقفه الواضح إزاء المأساة في سوريا وأماكن أخرى حيث يجري تدخل الدول الكبرى أو تهدد بالتدخل في الشئون الداخلية.

إن العالم اليوم يعاني من فقدان عنصر المحاسبة والمؤاخذة العادلة، والتوسط بين المعتدي والمعتدى عليه، ومنع الظالم من الظلم، أو على الأقل الجرأة على قول الحق في وجه الظالم.

(السنة: 54، الأعداد:3-5، أغسطس 2012م)

×