حول تواريخ المدينة
18 أغسطس, 2021“محمد” أصبح عاشر أشهر اسم للمواليد في أمريكا
18 أغسطس, 2021في ظل: “الأم العلمية” مرة أخرى (1)
محمد نعمان الدين الندوي
الناطقون بالأردية، أو قل: أهل “شبه القارة الهندية” يسمون الكتاب (المكتب) أو المدرسة أو الجامعة: “الأم العلمية”.
وذلك تعبيرا عن حبهم واحترامهم وتقديرهم لهذه الأمكنة المختارة، التي تلعب دورا رئيسيا في تحليتهم بحلية العلم، وتأديبهم بالآداب، ورفعهم إلى مستوى خدمة المجتمع والبلاد.
ورحم الله أول من سمى هذه المؤسسات والمعاهد التعليمية والتربوية: “الأم العلمية”، فقد كان الرجل حكيما ذا بصيرة، وموفقا وملهما في هذه التسمية الجليلة الموحية المعبرة المباركة.
فالجامعة أو المدرسة..- وما في معناهما- لأحرى وأجدر بأن تسمى: “الأم”… التي يضرب بها المثل في العطف والشفقة والحنان على أولادها، والتضحية براحتها ونومها من أجل إراحة أولادها، فهي تسهر لينام أولادها، وتتعب ليستريح أولادها، وتجوع ليشبعوا، وتشقى ليسعدوا، وتحرم لينالوا.
فليس هناك أعظم حنانا، وأكبر حبا وإخلاصا للإنسان، وحرصا على مصالحه، وكل ما يؤمن حياته، ويلمع مستقبله من أمه، التي تتحمل من أجله – ما لا يمكن أن يتحمله غيرها – من المشاق والمكاره، والآلام والمتاعب، فتغذيه من دمها وهو جنين، وتسقيه من صدرها وهو رضيع، وتتفانى في تنشئته وتربيته، وتوفير كل ما يسره ويريحه، وتجنبه مآسي الحياة قدر المستطاع، وكل ذلك دون مقابل مادي أو مكسب دنيوي.
كذلك المدرسة أو الجامعة… تحرص – أشد ما يكون الحرص- على إسعاد أبنائها الطلاب، من تعليمهم وتربيتهم، وتحليتهم بما يحسن أخلاقهم، ويزكي عاداتهم، ويطهر سلوكهم، ويجمل تصرفاتهم، ويجعل مستقبلهم ناجحا لا معا.
ثم المدرسة أو الجامعة ليست اسما للجدران أو المباني والعمارات…، بل إنما هي عبارة عن الإدارة المخلصة الأمينة الحفية، التي ترحب بالطلاب وتفتح أذرعها لاستقبالهم، وتسهر من أجل إراحتهم، وتوفير بيئة صالحة هادئة آمنة لهم، ينقطعون فيها إلى الدراسة كليا..، ويعكفون عليها ليل نهار.. صباح مساء..مستريحين من عوائق الحياة وهموم المعاش، فلا يهمهم أمر الأكل والشرب، بل إنما تؤمن الإدارة الكريمة لهم وجبات الطعام في أوقاتها، وتجنبهم كل ما يحول بينهم وبين إقبالهم على القراءة والكتابة، وتأدية واجباتهم المدرسية، أو يشوش أذهانهم، ويعكر صفاءهم، ويؤثر على هدوئهم،و يخدش كرامتهم، وينال من عزة نفوسهم.
وفوق ذلك كله… المدرسة أو الجامعة تعني – أول ما تعني – المعلمين المخلصين والمربين المحبين، الذين يحملون عطف الآباء وإخلاصهم، وحنان الأمهات ورحمتهن، ويستخدمون ما حباهم الله به من المواهب والقدرات، والصلاحيات والكفاءات، لجعل الطلاب إنسا حقيقيين، وتعليمهم وتربيتهم وتهذيبهم وتأديبهم، وتحليتهم بأنبل الشمائل وأعلى الصفات ليكونوا قدوة لغيرهم، وإعدادهم لحمل ميراث النبوة، ومشعل الهداية، والاضطلاع بأعباء الرسالة، وتحويلهم إلى طراز رفيع من أشرف خلق الله خلقا ونبلا، وطهرا ونقاء،و حبا وإنسانية، وتخريجهم كوادر مؤهلة يعملون لصالح مجتمعاتهم.
من هنا… جاء هذا التشبيه الجميل.. تشبيه دور التعليم والتربية – المدرسة وما في معناها- بـ: “الأم العلمية”، لكونها – المدرسة- هي الأخرى – أيضا- حريصة على إسعاد أبنائها الدارسين، وتاعبة في توفير الإمكانيات والمرافق التي تسهل أمورهم، وتلاقي – المدرسة – في ذلك ما تلاقي…حتى تضطر – في بعض الأحيان – إلى إراقة ماء وجهها، وبذل ديباجتها، وإن كنا لا نقرها على مثل هذه الأعمال التي تعد على حساب الكرامة وعزة النفس، وقديما جعل الشاعر التضحية بالكرامة، أعلى وأسمى من التضحية بالنفس….
فإن إراقة ماء الحياة
دون إراقة ماء المحيا
وكل هذه التضحية الغالية بالمروءة والوقت والراحة، تقوم بها المدرسة من أجل أولادها الطلاب، الذين تعتبرهم -المدرسة – أمانة يستودعها إياها آباء الطلاب وأولياؤهم، فلا تقصر المدرسة – تقصيرا ما – في رعاية هذه الأمانة وصيانتها والحفاظ عليها.
ثم المدرسة ليست مكانا عاديا، تمارس فيه عملية القراءة والكتابة، والتعليم والتدريس، كمهن وحرف أخرى تمارس في أمكنتها….
بل إن العلم في الإسلام يحمل طابعا دينيا محضا، ويعتبر طلبه وتعليمه عبادة من العبادات.
من هنا… فإن المكان – وهو المدرسة- الذي يخصص لطلب العلم وتعليمه، يحمل أهمية بالغة..
فللمدرسة شرف وحرمة وقدسية ليست لغيرها – من الأماكن – ما عدا بيوت الله.
يكفي المدرسة شرفاً أنها تنتمي إلى مدرسة “الصفة” المباركة، التي تعد أول مدرسة في الإسلام، كان طلابها الصحابة الكرام – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – الذين كانوا يتتلمذون على المعلم الأكبر والمربي الأعظم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي علمه ربه: “وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ” [النساء:113].
والحقيقة أن المدرسة مكان مبارك مقدس، بل إنه محراب يتعبد فيه بالعلم…- أو قل – بالعمل بأول حكم نزل به القرآن الكريم:”اقرأ”.
من هنا…رفع عبد الله بن مسعود رض مكانة العلم إلى أعظم عبادة: “الصلاة”، فقال: “الدراسة صلاة”.
ومثل ذلك ينسب إلى الإمام مالك، يقول ابن وهب: كنت عند مالك أسأله، فجمعت كتبي لأقوم، قال مالك: أين تريد؟ قال: قلت: أبادر إلى الصلاة، قال: ليس هذا الذي أنت فيه دون ما تذهب إليه، إذا صح فيه النية. (الرسول والعلم للقرضاوي: 27).
ومن العصر الحديث أعجبني قول أحمد أمين الذي جعل التفرغ للعلم وتعليمه مثل تفرغ العابد للعبادة، يقول: “فكما ينقطع الراهب للعبادة في دير، ينقطع الأستاذ للعلم وخدمته، أو بعبارة أخرى: إن الراهب يعبد الله عن طريق الصوم والصلاة، وهذا يعبده عن طريق العلم أيضا”. (فيض الخاطر 1/5، عنوان المقال: الجامعة كما أتصورها).
ومن ثم…فإن السعداء الذين يختارهم الله لطلب العلم في هذه المدارس والجامعات ويتخرجون منها….ينظر إليهم بنظرة أسمى وأعلى… لا ينظر بها إلى غيرهم، وهم الذين يسمون: “ورثة الأنبياء” ۔۔ وهم العلماء الذين يعتبرون امتدادا: “لعمل النبوة في الناس دهرا، ينطقون بكلمتها، ويقومون بحجتها، ويأخذون من أخلاقها كما تأخذ المرآة النور: تحويه في نفسها، وتلقيه على غيرها، فهي أداة لإظهاره، وإظهار جماله معا” (وحي القلم للرافعي ٣/ ٥٣).
كذلك ينظر إلى أولئك الذين يضطلعون بمهام التعليم والتدريس والتربية نظرة احترام وتقدير عظيمين، وهم الذين يسمون: “الأساتذة” أو: “المدرسين” الذين فضلهم البعض على الآباء، فقال:
أفضل أستاذي على نفس والدي
و إن نالني من والدي العز والشرف
فهذا مربي الروح والروح جوهر
وذاك مربي الجسم والجسم من صدف
******