الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (1)

الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي في مصاف رجال التاريخ
20 مايو, 2025
الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (2)
22 مايو, 2025

الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (1)

أبو يحيى السيواني

إنَّ ما يخلفه الموت وراءه من منظرٍ رهيب: دموعٌ منهمرة، قلوبٌ مفجوعة متألِّمة، شهقةٌ على شهقة، أو صبرٌ على جُرحٍ غير مندمل. وما ينشأ من ذلك من ألمٍ وحسرة، وحزنٍ عميقٍ يحزُّ في القلب، وبؤسٍ وشقاءٍ لا يبرحان صاحبه – لا يحيط به قلمٌ بليغٌ، ولا لسانٌ فصيح، ولا يمحو منه شيئًا أديبٌ بأدبه، ولا كاتبٌ بمقاله. إنَّه أعمق بكثير مما تكتب عنه المقالات، أو تتحدث عنه الرسائل…

عندما يرحل عنا شخصٌ، فإنْ كان عظيمًا، ذا مكانةٍ ساميةٍ في المجتمع، كتب الناس عنه؛ فالأصدقاء يكتبون ليتحدثوا عن انطباعاتهم، والأجانب يكتبون لأنهم عرفوه عن طريق العلم والفكر فأُعجبوا به…

أمَّا من يظلُّ ساكتًا، يتجرَّع كأس الفراق، ويتململ تململ السَّليم، لا يقرُّ له قرار، ولا يهدأ له بال، لا ترقأ من عينه دمعة، ولا يأتيه نوم، فهم أقرباؤه، الذين يربطهم به وشائج قربى لا تنفصم، وأواصر أسريةٌ لا تنعدم. فمن فقد أباه، أو حُرم أخاه، أو فارق شريكًا له أعزَّ عليه من حياته، ويمنعه دينُه أن يُبدي حزنه، أو يمنعه حياؤه أن يُسمع بكاؤه، أو يُرى على خدَّيه دموعٌ منهمرة، أو فرضت عليه ظروفه أن يهبط بآلامه وأحزانه إلى قرارة نفسه وأعماق قلبه، ويخرج على الناس صامتًا ساكتًا، صابرًا محتسبًا، لا يئنُّ ولا يشكو… لم يُخلق إلى الآن قلمٌ ليعبِّر عن ألمهم، ويصوِّر همومهم… إنهم ساكتون… وبسكوتهم يتكلمون… قلّ منا من يدرك عمق الحزن في قلبٍ لا يعرف الكتابة، ولا يدري الكلام الفصيح…

هكذا خلق الله الموت؛

دليل على الإيمان، دليل على الحب، دليل على فناء كلِّ شيءٍ من الوجود.

يأتي فيغيِّر من حياتنا كلَّ شيء، فما كان بيننا من أسباب السعادة والراحة، ووسائل الأنس والمحبة: الجلوس معًا، والمشي معًا، والحديث معًا، يتحوَّل إلى ذكرياتٍ مؤلمة…

تَبًّا للذِّكريات! إنَّها تجمع الماضي: دِقَّهُ وجِلَّهُ، ثم تنتزع منه حقائقه إذ وقع وحدث، وتضع فيه من حقائقها هي، ليستيقن الإنسان أنه لا يملك من أمره شيئًا؛ لا من حاضره، ولا من ماضيه، ولا من مستقبله… فأنت ضحكت معه على شيءٍ في الماضي، والآن تذكره فتستعبر عيناك؛ لأنَّه صار من الذكريات، فكذلك الحاضر كله: سروره، وفرحه، وتَرَحُهُ، سيصير ماضيًا، ويتحوَّل إلى ذكريات…

لقد كان الشيخ جعفر الحسني بيننا، ثم صار لنا جزءًا من التاريخ… فمنَّا من يذكره فيغيب في ذكرياته، ومنا من يجري ذكره أمامه، فلا يملك دمعته… كلنا نترحم عليه، ونذكر محاسنه…

إنَّ حياته مليئةٌ بالعبر والعِظات، مليئةٌ بالأحداث التي قلَّما تحدث، تحمل في طيَّاتها دروسًا إيمانيَّة. ولو أنَّ الله تعالى أنطق الزمان، وأعطاه لسانًا يتكلم، لقال: إنَّ لله تعالى إرادةً في خلقه لا تُقهَر، وقوةً في أمره لا تُغلَب، يخلق ما يشاء ويختار، ويفعل ما يريد. قد يختار الأضعف من عباده لأعلى مهامه؛ ليكون أقوى دليلٍ على قدرته وقوته، وعلى استغنائه عن الخلق:

﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةًۭ وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَرِثِينَ ﴾ [القصص: 5]

قد ينظر إلى من أوتي علمًا وفضلًا، فيرى منه اعتدادًا بذاته، وصَلَفًا وكبرياء، فيطرده من بابه، ويُظهر غناه عن الخلق وصمديَّتَه: ﴿يَـٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]

يأمر الملائكة أن: اسجدوا لآدم؛ لأنَّ فيه المسكنة، والتواضع، والحب، والطاعة، وأخرجوا إبليس فإنَّه مطرود، يرى نفسه خيرًا ممن جعلته خليفةً في الأرض…

“أنا الملك، أنا أغنى الأغنياء”

ثم يُعلن في الكائنات كلها للأبد:

من المعزُّ؟ من القاهر؟ من المذلُّ؟ من المعطي؟ من المانع؟

إنَّه الله: ﴿قل اللهم مالك الملك تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ ﴾ [آل عمران: 26]

للاستزادة من القوة الإيمانية، وللاستمداد الروحي من الكلمات الربانية التي تفتَّقت بها قرائح أهل القلوب المؤمنة الصافية، يَحلو لي أن أنقل لكم كلامًا بليغًا رائعًا، ومؤثرًا قويًّا للشيخ شرف الدين يحيى المنيري – رحمه الله – من كتاب سماحة شيخنا – رحمه الله – “تاريخ دعوت وعزيمت/ رجال الفكر والدعوة في الإسلام” (الجزء الثالث، ص 249–251)، تحت عنوان “مقام كبرياء”. وهو يدل على استغناء الله تعالى عن سائر خلقه، وصمديته، وتصرفه في عباده بما يُحيِّر العقل، ويُدهش النفس… فهو يقول: “إنه السلطان المطلق؛ فلا اعتراض على مشيئته، ولا مراجعة لحكمه، إذ يقول جل شأنه: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23].

فهو وحده الذي يَهَبُ من يشاء نور الإيمان، ويكسوه خلعة القبول، ويُقصي من يشاء عن بساط قربه، ويحرمه نفحات لطفه. يأخذ ذرّةً تائهةً أو لقىً ضائعًا، فيرفعه من التراب إلى أوج السماك، ويرمي من يشاء من معارج الأفلاك إلى هوّةٍ سحيقةٍ من الذل والهوان…”

فإن تساءلتَ: لِمَ ذَلك؟ قيل لك: “ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ”. فمن ذا الذي يتجرّأ أن ينازع الله في قضائه أو يعترض على مشيئته، قائلًا: لماذا أنعم على فلان وحرم فلانًا؟

أما ترى في هذا العالم المحسوس كيف أن الملك يرفع هذا إلى مرتبة الوزارة، ويجعل ذاك في أدنى المراتب؟ فكذلك شأن المولى في عطاياه، يصطفي لدينه من يشاء، فيخرج عبدًا من غياهب المعاصي، وينتشل آخر من أراذل الخلق، من الحطّابين والكناسين والظالمين وأكلة السحت، فمن ذا الذي يجرؤ على الاعتراض قائلًا: “أَهَؤُلَآءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنۢ بَيْنِنَا”؟

يصدر الأمر الإلهي: جيئوا بفضيل بن عياض، وإن كان قاطع طريق، فقد اختاره الاصطفاء، وأخرجوا بلعم بن باعور، وإن أفنى عمره ساجدًا، فقد استوجب الإقصاء. نريد عمر، وإن كان عاكفًا على عبادة الأوثان، ولا نريد عزازيل، وإن عبدنا سبعة آلاف عام، فمن ذا الذي يجرؤ أن يسأل: لماذا؟

فإذا نظرإلينا بعين الرحمة، تحوّلت عيوبُنا إلى محاسن، ونقائصُنا إلى كمالات، وقبائحُنا إلى بهاءٍ وجمال.

يا أخي، لم تكن إلا حفنة تراب، ملقاة في قارعة الطريق، تدوسها الأقدام ذلا وصَغارًا، حتى أشرقت عليها شمس العناية الإلهية، فأتاها النداء العلوي مدوّيًا: “إِنِّي جَاعِلٌۭ فِى ٱلْأَرْضِ خَلِيفَةً”. (انتهى النقل)

لو كان للزمان لسان لنطق بهذه الحقائق، لأنها حقائق إلهية وسنن كونية لا تتغير، وقد جعل الله الزمان وعاءً لها، وشاهدًا بها ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [سورة العصر: 1–3]

لقد جعل الزمان شاهدًا على خسارة كل إنسان باستثناء أصحاب العقيدة السليمة والأعمال الصالحة، الصابرين المتواصين بالصبر، الذين لا يقطعون رجاءهم عن ثمار الصبر، الثابتين على مبدأ الحق… حيث إن أحداثه تشهد بذلك.

لقد تجلت هذه القدرة الإلهية في شخصية أخينا الفاضل، الشيخ سيد جعفر الحسني، حيث بدأت شخصيته بكل بساطة وسذاجة، لم يكن يرى فيه أحد علامة بارزة للنبوغ والعبقرية، ولكن انتهت حياته ببلوغه ما لم يبلغه كثير من النبغاء والعباقرة الذين كانت لهم كل المؤشرات أن يكون الفأل لهم… ولكن بلوغ شخص لم يحلم به هو أولًا، ولم يدرِ بخلد أحد أنه سيكون هو… بلوغه إلى منزلة رفيعة تمناها الكثيرون ولم يصلوا إليها رغم جهود جبارة ومحاولات كثيرة وكفاءات عالية…المنزلة التي إذا نُسب إليها شخص عَظُم شأنه، وسُمعت كلمته، واستُقبلت شخصيته في العالم بحفاوة بالغة وتكريم نادر وترحيب حار، ورآه الناس غير ما كانوا يرونه، ونظروا إليه بغير ما كانوا ينظرون إليه، فإذا بلغها هذا الشخص الساذج البسيط، قضى الناس منه العجب، وتحيروا، وتساءلوا: كيف صار هذا؟ وأدرك العارفون بحكمة الله وتدبيره في خلقه أنه أمر الله: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة يوسف: 21]

وأدركوا كذلك أن تدبير الله وحِيله ليس بمقدور البشر أن يحيطوا بها ويتفهموها حق التفهم، إلا إذا رُزقوا فهمًا ثاقبًا في الدين: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سورة يوسف: 76]

ولكن السؤال لا يزال قائمًا: كيف صار ذلك كله؟ كيف يصل شخص بسيط إلى مكان مرموق يُغتبط به ويُحسد عليه؟

مهما كان الإنسان مؤمنًا بقضاء الله وقدره، عارفًا بصمديته وقدرته وقوته، فإن العقل يسأل ويتتبع العلل والأسباب ليربط العلة بالمعلول، ويستنتج منها نتائج صحيحة سليمة تفيد وتقنع؛ لأن العواطف وحدها لا تكفي، فلا يقتنع العقل ولا يطمئن، لأنه اعتاد أن يحلل كل شيء تحليلًا علميًّا عقليًّا، فلا يقبل من هذه الأشياء إلا ما وافق الأدلة العقلية وأحست النفوس بإصابة الرأي فيها، فاقتضى الأمر أن نلقي نظرة تحليلية على هذا الأمر.

سندرس القضية من ناحيتين:

  1. من ناحية أستاذ الأساتذة العلامة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله: من هو؟ وما قيمة اختياره لشيء؟ ولماذا اختار الشيخ جعفر والشيخ بلالا لمهمة يعرف القاصي والداني قدرها وأهميتها؟ وهل هو عندما اختارهما اختارهما من أجل القرابة؟ أم أنه جاء اختيارهما عن جدارة واستحقاق، وبعد دراسة عميقة للوضع، وتدبير حكيم للإدارة، وتجارب طويلة محكمة لعملية التدريس وإدارة الشؤون التعليمية والتنظيمية؟ وهل الظروف هي التي مهدت لهما الطريق واقتضت لهما ذلك؟ أم أنه كان قفزة قفزاها إليه؟
  2. وناحية أخرى هي حياة الشيخ جعفر وأهليته لهذا المنصب…

إن إغماض النظر عن الظروف الصعبة القاسية التي مرت بها الإدارة ومر بها شيخنا، والتي كانت أشبه شيء بالزلازل والبراكين، والصخرة العاتية التي تدحرجت على الإدارة ومسؤوليها بكل قوة ووحشية، كأنها جلمود صخر حطَّه السيل من علٍ، والتي لم يكن أحد يتصور أن يقف في تيارها العنيف الجارف العاتي المُدمِّر أقوى إنسان في وقته مشدود الأعصاب، فضلًا عن رجل نحيف ضعيف مثل الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، ولكن الذي يملك إيمانًا قويًّا راسخًا لا يَزِلُّ ولا ينحرف، لا يضطرب فؤاده ولا ترتعش فرائصه، لا تهجس فيه الهواجس ولا يتلجلج فيه القلب والشعور، فقد صمد الشيخ في وجهها كأنه صخرة صماء لا تلين ولا تضعف، فلم تنل منه صروف الدهر ولم تزلزله الرياح الهوجاء التي مرت تقتلع الأخضر واليابس، لأن قوته المعنوية كانت أقوى من هذه الزوابع، ولأن ثباته على المبدأ وإيمانه الراسخ القوي بغلبة أمر الله، وامتلاكه لناصية العباد وعلمه المحيط بأسرار العبد وخفاياه كان سلاحَه… فثبَّته الله على المبدأ ثبوت الجبال الراسيات، كما فعل الله بآبائه في مواقفهم إبّان عصورهم، الذين تجري دماؤهم في عروقه، وتسرى خصالهم من ثقة وشهامة وصبر وسكوت وتعمق في فهم القضايا وتروٍّ وتريُّث في اتخاذ القرارات وإصدار الحكم… يسري كل ذلك في نفسه ملتحمًا بدمه منجذبًا في ذاته…

صمد صمودًا يصطدم به الوعل، فما استطاع أن يضره، ولكن أوهى قرنه الوعل…

إن إغماض النظر – يا سادة – عن هذه الحقائق لا يعطينا صورة صحيحة لاختيار هذين الشيخين: الشيخ جعفر والشيخ بلال لهذه المناصب، ولا لما استجد من الأمور بعده.

فالذين عاصروا تلك الظروف يعلمون مدى خطورة القضايا التي أثيرت كأنها فتنة عمياء، كل شخص يكتب فيها ويدلي برأيه، وكيف كانت تُنشر رسائل للدعوة إلى المناظرات والمبارزات، وتُوجَّه الاتهامات هنا وهناك… كلها كانت محاولات جادة لزعزعة البنيان. فلا يمكن تنحية هذه الحقائق جانبًا من البحث، ولا يمكن فهم سر الاختيار لهذين الأخوين الفاضلين على الوجه الصحيح، إلا إذا درسنا شخصية الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، والخلفية التاريخية لهذه الحالات الحرجة، وشخصية الشيخ جعفر، وجدارته لتولي هذه المهمة، وكونها مخرجًا صحيحًا للخروج من الأزمات.

كثير من الناس يزعمون أن هذه التولية كانت من أجل قرابة، ولكنهم لا يزالون وراء حجب كثيفة من حقيقة الأمر، يثيرون بهذه الاتهامات شكوكًا وشبهات تؤدي إلى فتنة عمياء، يذهب ضحيتها معهد علمي عريق هم ينتسبون إليه، ويعتزون به، ويردون إليه الفضل في كل ما ينتفعون به في دنياهم. ومنشأ هذه الشكوك عدم معرفتهم بمنهجه، وعدم إحاطتهم بما يحيق به من المكر السيئ من أهله: “ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.”

لو علموا كل ذلك بإخلاص، وأرادوا أن يصلوا إلى رأي واحد متفق عليه بينهم، يحفظون به لمعهدهم العلمي عقيدته ومنهجه وأهدافه وشموخه، لما كان لهم رأي غير الرأي الذي ارتآه الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي.

التاريخ يمضي قدمًا، حاملًا معه للبشرية ما لها وما عليها، وهو لا يزال في حاجة إلى من ينقّب فيه، ويستخرج للناس دفائنه.

هل سألتم التاريخ: بأي مرحلة حاسمة دقيقة مرّ الشيخ في آخر عمره من حياته؟! كم كان يقاسي من ألم وهمّ وحزن وحسرة وأسف؟! إذا ضاعت ثروة الإنسان التي اكتسبها في عدة أعوام، يكاد يُجَنّ، فما ظنك بشخص يرى ثروة حياته وحياة أجداده، بل ثروة الأمة التي تركها للأمة عظماؤها، وفيها دماؤهم الزكية الطاهرة، وفيها جهودهم المضنية الجبارة، وقدّموا من أجلها تضحيات رائعة، نادرة في تاريخ إدارة المعاهد والمؤسسات؟!

تلك التضحياتٌ قمينة بأن تُكتب بمداد الذهب، من لدن العلّامة عبد الحي الحسني، إلى الدكتور عبد العلي، إلى الشيخ أبي الحسن، إلى عصره هو… يراها تضيع وتُنهب، وتتحوّل من أهدافها وحقائقها إلى جهة أخرى!

ما ظنك بشخص يرى هذا كله، أَفَيَسْكُتُ ويحبّ العافية، ويترك الميدان كما كان يظن به كثير من الناس؟! لو فعل ذلك، لكان له فيه راحة، ولكن سيبقى الأمر وخزًا في الضمير، ووصمة عار على جبين التاريخ، ولأحسَّ في نفسه أنه قصّر في أداء واجبه. ومن يدري؟! لعلّ الله قد ادّخر الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي لأمرٍ هام لا يعلمه غيره وكان وحده يعلم فى علم الغيب ان الأمر الفلانى لا يقدر على تنفيذه الا الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، فأجرى على يديه أمورًا لم تكن في حسبان أحد. فاستشار المخلصين…

إن الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ومن كان معه من مستشاريه المخلصين، كانوا أجلّ وأرفع من أن يُسنِدوا هذا الأمر إلى شخص لا يرونه أهلًا لذلك، حتى ولو كان أقرب أقربائه.

لا تظنوا يا سادة، أن الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي يحكم وحده ويتحكم في الأمر دون مشورة، فإنه ليس من عادته الشريفة، ولا هي من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وسنن صحابته الأخيار، بل هو سيُعتبر مخالفًا لحكم الله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]

نعم، وليس من شك في أن الذين مع الشيخ، والذين يستشيرهم الشيخ ويعتمد عليهم ويثق بهم– هم من خلّص أحبابه، ومخلصون للإدارة، قلوبهم صافية نقية، يفكرون في الإدارة مجردين عن الأهواء والنزعات والمنافع الشخصية والذاتية. فالواجب علينا أن نعتمد عليهم ونثق بكونهم أمناء فى أداء الأمانة إلى أهلها ” ان الله يامركم ان تؤدو الأمانات الى اهلها..” ولفهم هذه الحقيقة على الوجه الصحيح يجب أن نلقي نظرة دقيقة على حياة وخصائص الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، يستطيع المتأمل المدقق أن يصل من خلالها إلى الحقيقة المستورة عن أنظار الناس…

الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، من هو؟

إن شخصيته أعمق بكثير مما كتب عنه الكُتّاب، ومما عُرف عنه من طلابه وتلاميذه والمحبين المنتسبين إليه. إنه العالم الضليع، الفقيه في الدين والفقيه في النفس، الزاهد العارف، الإداري المحنّك، المؤرخ المدقق، الأديب البارع، المتفوق في معرفة أسرار اللغة العربية وتاريخ آدابها وجغرافيتها. أفنى عمره في القراءة والمطالعة. يقول عنه “مثنى ميان” جدّ أخينا عمير الحسني، وقد كان معاصرًا له، صَحِبه منذ طفولته: “إنه كان يقرأ دائمًا، قائمًا، قاعدًا، مستلقيًا، ما كان يتوقف”، وكان الشيخ بنفسه يقول دائمًا: “أكثر من المطالعة حتى يقول الناس عنك مجنون”.

فزوّدته القراءة الكثيرة المتنوعة بمعلومات كثيرة مختلفة متنوعة، ومنحته كذلك بصيرة يدرك بها بواطن الأمور وخفايا الأشياء. كلنا يعلم عنه هذا العمق وهذه الدقة في تأليفه، وفيما كان يكتب من مقالات أو مقدمات أو رسائل. ثم إن مزاولته لعملية التدريس مدة طويلة، مع بقائه يدًا مساعدة للمدير المحبوب المقبول “محب الله اللاري”، وكثرة رحلاته في بلاد العالم المختلفة، العربية وغير العربية، مرافقًا لخاله المعظّم الرئيس العام، واطلاعه الواسع على أوضاع العالم السياسية والاقتصادية، كل ذلك أكسبه تجارب لا متناهية قلّما يحصل مثلها لشخص ما.

فقد رأى أحداثًا كثيرة في هذه المؤسسة وغيرها، في هذه الفترة الطويلة التي أتاحها الله له، فلم يمرّ بها مرا عابرًا سريعًا، مغمضًا عينيه عما كان يجري حوله من الأحداث، أو غافلًا عما كان في تلك الأحداث من عبر وعظات، بل وقف عندها متأملًا، متبصرًا، معتبرًا، متعظًا، فبَلا حُلوَها ومرَّها، ولم يترك شيئًا منها يذهب سُدى، بل استفاد منها وأخذها بعين الاعتبار.

فكان يعلم بدقة تاريخ المدارس الإسلامية في الهند، وأهميتها في صيانة الإسلام والمسلمين، وما تواجهها من مشاكل، وما يمكن أن يقوّض أركانها ويزلزلها من فتن داخلية وخارجية. وكذلك لم يكن خافيًا عليه ما مرّت به بعض المدارس الدينية العريقة، العظيمة في إنتاج الرجال من انتشار وانقسام نتيجة خلافات ومنافسات على المناصب والكراسي… (يتبع)

×